ذكرى مولد الخليفة العباسي هارون الواثق.

حاصرت جيوشه روما وسيطر على نصف ايطاليا، له قصة مع يأجوج ومأجوج، له نسل من العلماء المنتشرين في البلاد

حيث في مثل هذا اليوم.

ولد الخليفة العباسي التاسع هارون الواثق بالله “أبا العلماء”.

وكان ذلك في 21 رمضان 199 هجري

الموافق في تاريخ 815/05/05 م.


نشأته.


ولد في بغداد في عام 815، وأما أبيه فهو الخليفة العباسي محمد المعتصم بالله وأمه فهي قراطيس الرومية.

وكانوا يسمونه المأمون الصغير لأدبه وفضله، وكان المأمون يجلسه وأبوه المعتصم واقف، وكان يقول: يا أبا إسحاق لا تؤدب هارون، فإنى أرضي أدبه، ولا تعترض عليه في شيء يفعله. كما عرف عنه اهتمامه بالآداب والأنساب والموسيقى.


تولي الخلافة


تولى الخلافة في 843/01/05 م بعد وفاة أبيه الخليفة محمد المعتصم، فأحسن الواثق لأهل الحرمين حتى قيل إنه لم يوجد بالحرمين في أيامه سائل أي فقير، وكذلك إزاداد في عهده تشجيع العلماء.


فتح إيطاليا وحصار روما


بمجرد توليه للخلافة كان أول عمل يقوم به هو تجهيز جيش لفتح إيطاليا وفتح روما، وكان العباسيون قبله يسيطرون على اغلب صقلية وعلى مدينة نابولي.
فقرر الواثق ارسال حملة لجعل الصلة بين نابولي وصقلية مباشرة بفتح ما بينهما والزحف شمالا نحو روما،ووصل جيشه إلى والي إفريقية محمد الأول الأغلبي ليشرف عليه.

وكان جيشه الذي خرج من العراق بقيادة الفضل بن جعفر الهمداني وخلفون الربيعي واستطاع هذا الجيش فتح اخر نقطة في صقلية وهي ميسينة ثم دخل بى ايطاليا ووصل إلى نابولي ثم زحف شمالا فأصبحت نصف ايطاليا تحت سيطرة العباسيين بالكامل، ثم إستطاع دخول روما ولكن لم يستطع دخول اسوار روما الداخلية، واستمر الحصار حوالي شهرين حيث توقف بسبب دخول الشتاء، ولكن بقي العباسيون في حدود روما ومسيطرين على نصف إيطاليا.


قصته من سد يأجوح ومأجوج


راي الخليفة الواثق باللّه في المنام أن السد الذي بناه ذو القرنين بيننا وبين يأجوج ومأجوج مفتوحاً، فأحضر سلاماً الترجمان الذي كان يتكلم ثلاثين لساناً، وقال له اذهب وانظر إلى هذا السد وجئني بخبره وحاله، وما هو عليه، ثم أمر له بأصحاب يسيرون معه وعددهم 60 رجلاً ووصله بخمسة آلاف دينار وأعطاه ديته عشرة آلاف درهم، وأمر لكل واحد من أصحابه بخمسين ألف درهم ومئونة سنة ومئة بغل تحمل الماء والزاد، وأمر للرجال باللبابيد وهي أكسية من صوف وشعر.

وحمل سلام رسالة من الخليفة إلى إسحاق بن إسماعيل صاحب أرمينية بتفليس، وكتب صاحب أرمينية توصية لهم إلى صاحب السرير، وذلك كتب لهم إلى صـاحب اللان، وهكذا إلى فيلا شاه وطرخان ملك الخزر، الذي وجه معهم خمسة أدلاء ساروا معهم 25 يوماً حتى انتهوا إلى أرض سوداء منتنة الرائحة، “فسرنا فيها عشرة أيام، ثم وصلنا إلى مدن خراب فسرنا فيها عشرين يوماً وسألنا عن خبرها فقيل لنا هي المدن التي خربها يأجوج ومأجوج، ثم صرنا إلى حصون بالقرب من الجبل الذي في شعبة منه السد، وفي تلك الحصون قوم يتكلمون العربية والفارسية، مسلمون يقرؤون القرآن ولهم كتاتيب ومساجد، وبين كل حصن وآخر فرسخان، ثم صرنا إلى مدينة يقال لها (إيكة) لهـا أبواب من حديد وفيها مزارع وهي التي كان ينزلها ذو القرنين بعسكره، بينـها وبين السد مسيرة ثلاثة أيام، ثم صرنا إلى جبل عال، عليه حصن، والسد الذي بناه ذو القرنين هو فج بين جبلين عرضه 200 ذراع، وهو الطريق الذي يخرجون منه، فيتفرقون في الأرض، فحفر أساسه 30 ذراعاً وبناه بالحديد والنحاس، ثم رفع عضادتين مما يلي الجبل من جنبتي الفج عرض كل منهما 25 ذراعاً في سمك 50 ذراعاً، وكله بناء بلبن مغيّب في نحاس، وعلى العضادتين عتبة عليا من حديد طولها 120 ذراعاً، وفوقـــها بناء بذلك اللبن الحديد إلى رأس الجبل وارتفاعه مد البصر”.

“فيكون البناء فوق العتبة 60 ذراعاً وفوق ذلك شرف من حديد، في كل شرفة قرنتان تنثني كل واحدة على الأخرى، طول كل شرفة خمسة أذرع في أربعة، وعليه سبع وثلاثون شرفة، وباب من حديد بمصراعين معلقين عرض كل مصراع 50 ذراعاً في 75 ذراعاً في ثخن خمسة أذرع، وقائمتان في دوارة على قدر العتبة، لا يدخل من الباب ولا الجبل ريح، وعلى الباب قفــل طوله سبعة أذرع في غلظ باع في الاسـتدارة، والقفل لا يحتضنه رجلان وارتفاع القفل من الأرض 25 ذراعاً، وفوق القفل بخمسة أذرع غلق طوله أكثر من طول القفــل، وقفــيزاه كل واحد ذراعان وعلى الغلق مفتاح معلق طوله ذراع ونصف، وله 21سناً من الأسنان واستدارة المفتاح 4 أشبار معلق في سلسلة ملحومة بالباب طولها 8 أذرع في 4 أشبار، والحلقة التي فيها السلسلة مثــل المنجنيـق، وعتبة الباب عرضها 10 أذرع في بسط مائة ذراع، ومع الباب حصنان يُكوِّن كل منهما 200 ذراع

“وفي أحد الحصنين آلة البناء التي بني بها السد، من قدور الحديد ومغارف حديد، وهناك بقية من اللبن الذي التصق ببعضه بسبب الصدأ، ورئيس تلك الحصون يركب في كل يومي إثنين وخميس، وهم يتوارثون ذلك الباب كما يتوارث الخلفاء الخلافة، يقرع الباب قرعاً له دوي، والهدف منه أن يسمعه مَن وراء الباب فيعلموا أن هناك حفظة وأن الباب مازال سليماً، وعلى مصراع الباب الأيمن مكتوب {فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً}، والجبل من الخارج ليس له متن ولا سفح، ولا عليه نبات ولا حشيش ولا غير ذلك، وهو جبل مسطح، متسع، قـائم أملس أبيض”.

وبعد تفقد سلام الترجمان للسد انصرف نحو خراسان ومنها إلى طبانوين، ومنها إلى سمرقند في ثمانية أشهر، ومنها إلى أسبيشاب، وعبر نهر بلخ ثم صار إلى شروسنة فبخارى وترمذ ثـم إلى نيسابور، ومات من الرجال في الذهاب 22 رجلاً وفي العــودة 24 رجلاً.

وورد نيسابور وبقي معه من الرجال 14 ومن البغال 23 بغلاً، وعاد إلى (سر من رأى) فأخبر الخليفة الواثق بما شاهده.. بعد رحلة استمرت 16 شهراً ذهاباً و12 شهراً في الإياب.


إيقاف خلق القرآن


قضية إختبار العلماء بخلق القرآن بدئها المأمون بهدف السيطرة على العلماء الذين يسعون لسحب السلطة الدينية من الخليفة، ثم استمرت في عهد المعتصم والذي أوقفها بعد مقابلته لابن حنبل، ثم أعادها الواثق ولكنه أوقفها ثم أنهاها المتوكل بشكل كامل.

وقصة تراجع الواثق عن القول بخلق القرآن ورد في مصادر كثيرة ومنها ما ذكره الذهبي في كتاب (سير اعلام النبلاء):

قال الخطيب استولى أحمد بن أبي داود على الواثق وحمله على التشدد في المحنة والدعاء إلى خلق القرآن وقيل إنه رجع عن ذلك قبيل موته قال عبيد الله بن يحيى حدثنا إبراهيم بن أسباط قال حمل رجل مقيد فأدخل على ابن أبي دواد بحضور الواثق فقال لأحمد أخبرني عن ما دعوتم الناس إليه أعلمه رسول الله ﷺ فما دعا إليه أم شيء لم يعلمه قال بل علمه قال فكان يسعه أن لا يدعو الناس إليه وأنتم لا يسعكم فبهتوا وضحك الواثق وقام قابضا على فمه ودخل مجلسا ومد رجليه وهو يقول أمر وسع رسول الله ﷺ أن يسكت عنه ولا يسعنا ثم أمر أن يعطي الشيخ ثلاث مئة دينار وأن يرد إلى بلده وعن طاهر بن خلف قال سمعت المهتدي بالله بن الواثق يقول كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلا أحضرنا قال فأتي بشيخ مخضوب مقيد فقال أبي ائذنوا لأحمد بن أبي دواد وأصحابه وأدخل الشيخ فقال السلام عليكم يا أمير المؤمنين فقال لا سلم الله عليك قال بئس ما أدبك مؤدبك قال الله تعالى ” وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ” فقال أحمد الرجل متكلم قال كلمة فقال يا شيخ ما تقول في القرآن قال لم تنصفني ولي السؤال قال سل قال ما تقول أنت قال مخلوق قال هذا شيء علمه رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر والخلفاء أم لم يعلموه فقال شيء لم يعلموه قال سبحان الله شيء لم يعلموه وعلمته أنت فخجل وقال أقلني قال المسألة بحالها ما تقول في القرآن قال مخلوق قال شيء علمه رسول الله قال علمه قال أعلمه ولم يدع الناس إليه قال نعم قال فوسعه ذلك قال نعم قال أفلا وسعك ما وسعه ووسع الخلفاء بعده فقام الواثق فدخل الخلوة واستلقى وهو يقول شيء لم يعلمه النبي ﷺ ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي علمته أنت سبحان الله عرفوه ولم يدعوا إليه الناس فهلا وسعك ما وسعهم ثم أمر برفع قيد الشيخ وأمر له بأربع مئة دينار وسقط من عينه ابن أبي دواد ولم يمتحن بعدها أحدا في إسنادها مجاهيل فالله أعلم بصحتها وروى نحوا منها أحمد بن السندي الحداد عن أحمد بن الممتنع عن صالح بن علي الهاشمي عن المهتدي بالله قال صالح حضرته وقد جلس والقصص تقرأ عليه ويأمر بالتوقيع عليها فسرني ذلك وجعلت أنظر إليه ففطن ونظر إلي فغضضت عنه قال فقال لي في نفسك شيء تحب أن تقوله فلما انفض المجلس أدخلت مجلسه فقال تقول ما دار في نفسك أو أقوله لك قلت يا أمير المؤمنين ما ترى قال أقول إنه قد استحسنت ما رأيت منا فقلت في نفسك أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول القرآن مخلوق قال فورد علي أمر عظيم ثم قلت يا نفس هل تموتين قبل أجلك فقلت نعم فأطرق ثم قال اسمع فوالله لتسمعن الحق فسري عني وقلت ومن أولى بالحق منك وأنت خليفة رب العالمين قال مازلت أقول القرآن مخلوق صدرا من أيام الواثق حتى أقدم شيخا من أذنة فأدخل مقيدا وهو شيخ جميل حسن الشيبة فرأيت الواثق قد استحيا منه ورق له فما زال يدنيه حتى قرب منه وجلس فقال ناظر ابن أبي داود قال يا أمير المؤمنين إنه يضعف عن المناظرة فغضب وقال أبو عبد الله يضعف عن مناظرتك أنت قال هون عليك وائذن لي واحفظ علي وعليه ثم قال يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه هي مقالة واجبة داخلة في عقد الدين فلا يكن الدين كاملا حتى تقال قال نعم قال فأخبرني عن رسول الله ﷺ حين بعثه الله هل ستر شيئا مما أمر به قال لا قال فدعا إلى مقالتك هذه فسكت فقال الشيخ يا أمير المؤمنين واحدة قال الواثق واحدة ثم قال أخبرني عن الله تعالى حين قال ” اليوم أكملت لكم دينكم ” أكان الله هو الصادق في إكمال ديننا أو أنت الصادق في نقصانه حتى يقال بمقالتك فسكت أحمد فقال الشيخ اثنتان يا أمير المؤمنين قال نعم فقال أخبرني عن مقالتك هذه أعلمها رسول الله أم جهلها قال علمها قال فدعا إليها فسكت قال الشيخ ثلاثة ثم قال فأتسع لرسول الله ﷺ أن يمسك عنها ولم يطالب أمته بها قال نعم قال واتسع ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي قال نعم فأعرض الشيخ عنه وقال يا أمير المؤمنين قد قدمت القول بأن أحمد يضعف عن المناظرة يا أمير المؤمنين إن لم يتسع لك من الإمساك هذه المقالة ما زعم هذا إنه اتسع للنبي ﷺ وأصحابه فلا وسع الله عليك قال الواثق نعم كذا هو اقطعوا قيد الشيخ فلما قطعوه ضرب بيده فأخذه فقال الواثق لم أخذته قال لأني نويت أن أوصي أن يجعل معي في كفني لأخاصم هذا به عند الله ثم بكى فبكى الواثق وبكينا ثم سأله الواثق أن يحاله وأمر له بصلة فقال لا حاجة لي بها ثم قال المهتدي فرجعت عن هذه المقالة وأظن الواثق رجع عنها في يومئذ قال إبراهيم نفطويه حدثنا حامد بن العباس عن رجل عن المهتدي بالله أن الواثق مات وقد تاب عن القول بخلق القرآن.


الرد على قال تفضيل العنصر التركي


قام الخليفة الواثق بتعيين اشناس وزيرا ومنحه لقب سلطان وهنا لقب السلطان بمعنى الوزير وليس الحاكم، وقد استغل البعض هذا الأمر لاتهام الواثق بتفضيل العنصر التركي وهذا امر خاطئ، فقد كانت الدولة العباسية دولة عدل تمنح جميع اعراقها وقومياتها الحق في تقلد المناصب.
فلم يتم إقصاء العرب في زمن الواثق كما يدعون فقد كان من القادة العرب في زمن الواثق حمزة الخزاعي وسلم الباهلي والفضل بن جعفر الهمداني وخلفون الربيعي وكذلك وزرائه كانوا من العرب ومنهم ابن الزيات وابن ابي داود.


نسله علماء انتشروا في البلاد


لا يوجد خليفة نسله من العلماء والفقهاء المنتشرين في البلاد مثل نسل الخليفة العباسي هارون الواثق، فإبنه محمد المهتدي تولى الخلافة وكان راشديا زاهدا،
وكذلك ابنه عبد الله الذي كان اماما فاضلا في خرسان وكان مقدما عند ولاتها الصفاريين.
وأما ابنه عبد الرحمن فكان عالما وسكن في مصر
وأما ابنه العباس فكان زاهدا ناسكا سكن في البصرة
وأبنائه ابراهيم وعلي ومحمد الاصغر وجعفر وعبد الواحد وعبد الصمد فكانوا علماء في بغداد وسامراء.
وأما ابنه عبد الوهاب فكان عالما فقد وسكن افريقية وتزوج من ابنة اخ ابراهيم ابن الاغلب.
وأما محمد بن عبد الوهاب بن الواثق فسكن في الاندلس وأكرمه عبد الرحمن الناصر فأصبح من شيوخ الاندلس.
وأما الحسين بن عبد الوهاب بين الواثق فسكن في صقلية لنشر الاسلام فيها.
وأما عبيد الله بن عبد الصمد بن الواثق فكان يعمل في الشؤون الدينية في دار الخلافة وله حلقة في بغداد.
ومحمد بن المهتدي بين الواثق فأصبح من كبار الفقهاء الشافعية .
وعبد العزيز بن محمد بن ابراهيم بن الواثق فكان فكان من اهل العلم والقراءات
و عمر بن عبد الرحمن بن ابراهيم بن الواثق فكان عالما وسكن الرملة في فلسطين وكتب عنه الناس
والكثير الكثير من العلماء الذين لا يمكن ان يتم جمعهم.


وفاته


اصيب الواثق بمرض الاستسقاء فعالجه الاطباء فتحسن ثم فجأة ازدادت حالته ضعفا وتوفي في نفس اليوم وكان ذلك في 847/08/11 م ولم يوصي بالخلافة من بعده لأحد قائلا ” لا يراني أحد اتقلدها حيا وميتا”، فاجتمع رجال الدولة وحاولوا تعيين محمد بن الواثق ولكنه كان صغيرا لم يستطع حتى أن يحمل الدرع، فقاموا بتنصيب اخ الواثق وهو جعفر المتوكل والذي تولى الخلافة من بعده.

**** المصادر:

1) سير أعلام النبلاء، الذهبي
2) الكامل في التاريخ، إبن الأثير
3) البداية والنهاية، إبن كثير
4) تاريخ الخلفاء، السيوطي
5) فتوح البلدان، البلاذري

*****************
كتب بقلم:
المؤرخ تامر الزغاري
*****************

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.