طرب الآلة .. تراث فني عابر للزمن الثقافي المغربي ..

من جوانب التراث الأصيل المشرق والعابر للزمن الثقافي التراثي المغربي، هناك تاريخ وذاكرة وتجليات طرب الآلة أو ما يعرف أيضاً بالطرب الأندلسي. جانب وبقدر ما كان لهذا التعبير الفني الموسيقي من قدرة نفاذ وتأثير في ذات المتلقي ومشاعره لِما يحتويه من مقام متعددٍ وتعاقبٍ عزفٍ وتواترٍ ايقاعٍ وغناء، بقدر ما يسجل للمغاربة من فضل في رعاية هذا التراث الرمزي على امتداد قرون والحفاظ على جزئه الأكبر حتى يظل ممتداً صافياً نقياً أصيلاً.

وكما في علم باحثين وفاعلين في المجال، لطرب الآلة امتداد واسع شمل بنوع من التفاوت حواضر مغربية عدة، اشتهرت بعلامات متميزة وحُفاظ وعارفين كبار بأسرار هذا التراث الانساني عن مدن فاس وتطوان والرباط وشفشاون ومكناس..، بل كان هؤلاء بفضل في استمراريته واتساع مجاله، ليبلغ ما بلغه من رقي وغنى ومكانة وهيبة فنية تعبيرية تفاعلية حضارية ومن تعمير وخلد عابر لأجيال وقرون، ولم يسهم هؤلاء في إغناء هذا التراث فقط إنما أيضاً في نشره بمدن أخرى غير مدنهم الأصل.

في هذا الاطار ارتأينا ورقة حول واحدة من مدن المغرب العتيقة التي كانت بحكم قربها دوماً بتماس ثقافي بفاس كعاصمةٍ ومركزٍ واشعاعٍ في تاريخ البلاد، يتعلق الأمر بتازة وما طبعها من تفاعل فني وميزها من أصول عارفين كبار بطرب الآلة، مع ما يقتديه الأمر من حذر معرفي علمي ونبش وحق في إثارة سؤال ذاكرة وإنتماء الى حين ما هو شاف لباحثين متخصصين. اضافة لمِا كان عليه معهدها الموسيقى على امتداد فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، من إسهام وتميز معبر جعل طرب الآلة بتلقين وحضور وعشق واشعاع.

وكثيرة هي أسماء عارفين ممن أثث زمن طرب الآلة وممن كان لهم وقعهم وبصمتهم في هذا المجال، بعض منهم على أساس أسماءهم وبيوتاتهم وأسرهم والتي منها من لايزال قائماً ممتداً لحد الآن، قد يكونوا من أصول تازية ما هو شبه مؤكد. منهم عبد السلام البريهي المتوفي في ثلاثينات القرن الماضي وكان قد تلقى تعليمه على يد الحاج حدو بن جلون، وتذكر مصادر التاريخ أن البريهي هذا من شرفاء الوداغير الحسينيين بفكًيكً ربما قبل انتقالهم الى تازة ومنها الى فاس، وأنه كان ممن تميزوا بطرب الآلة رئاسة بغير منازع. وبحسب الباحثين هو وارث سر المدرسة الفاسية لطرب الآلة وناشر أصولها التي لاتزال قائمة لحد الآن، ومن تلامذته ابنه محمد البريهي والفقيه المطيري ومحمد دادي وعثمان التازي. وكان محمد البريهي الابن الذي ولد بفاس وتوفي به أواسط أربعينات القرن الماضي، من أمهر العازفين على آلة الرباب وبدور كبير في ترسيخ مكانة وطرب الآلة والتعريف به، من خلال جوقه الذي تميز به وهو الجوق الذي ترأسه لاحقاً تلميذه ووارث أسلوب أداءه عبد الكريم الرايس. ومحمد البريهي في رأي الباحثين والمهتمين بهذا المجال هو من نوابغ هذا التراث المغربي الأصيل الذين كرسوا حياتهم دفاعاً عنه. ومن كبار العارفين الذين كانوا يحفظون غير قليل منه ويتقنون أدواره ومستعملاته، فكان بجوق متميز بفاس ضم نخبة ممن لقنهم أصول هذا الفن الأصيل الأندلسي. وحول “البريهي” الاسم والأسرة والانتماء من عدمه لتازة وجوارها، من المفيد الاشارة في هذا الاطار لــ”علي البريهي” أحد الفقهاء المدرسين بالجامع الكبير بتازة قبل فرض الحماية الفرنسية على البلاد، وقد توفي بداية سبعينات القرن الماضي بعدما تجاوز عمره المائة سنة، وكان قد انتقل بعد حدث الحماية الى قبيلة صنهاجة لنشر العلم بها الى أن توفي بها تحديداً في دوار النخلة.

والى جانب محمد البريهي غير المستبد انتماءه لتازة كأحد أعلام طرب الآلة لِما كان له من صدى ووقع في هذا المجال هناك محمد التويزي ولبزور التازي وغيرهم، وتكفي الاشارة الى أنه لما طرح موضوع تدوين التراث الأندلس أو طرب الآلة بالمغرب منذ ثلاثينات القرن الماضي، دون الاستاذ يونس الشامي بالنوطة نوبة رصد الذيل من املاء المرحوم لبزور التازي. وأنه الى جانب من أسهم في التأليف حول هذا التراث الأصيل المغربي كل من محمد الجعيدي ومولاي العربي الوزاني وعبد اللطيف بن منصور والحاج ادريس بن جلون، هناك ما أنجزه الحاج عثمان التازي الذي قام بتلحين صنعات على نغمة النهاوند وأقامها على ميزان القائم ونصف، كان ذلك في ثلاثينات القرن الماضي بمناسبة انعقاد مؤتمر الموسيقى المغربية. وقد أورد محمد بلمليح رئيس جمعية هواة الموسيقى الاندلسية بالمغرب وأحد الفقهاء الذين أخدوا عن القرويين والزاوية التيجانية وممن استفادوا كثيراً من مخالطة كبار أعلام طرب الآلة. أورد عن طرب الآلة في علاقته بمدن مغربية أصيلة زمن الحماية بالمغرب، ما تميزت به هذه الفترة الحرجة من خمول موسيقي وقلة البيوتات المهتمة في بعض المدن، مؤكداً ما كانت عليه وزان وطنجة من حركية واقبال هناك تازة. وأن فاس بداية أربعينات القرن الماضي كانت قبلة لعشاق طرب الآلة القادمين من مدن الشمال. وأن ما كان عليه محمد العربي التمسماني من تردد عليها، سمح له بالتعرف على كبار الفنانين بها أمثال أحمد التازي، وتم الترحيب به كعازف في جوق البريهي أنذاك.

وطرب الآلة الذي يجمع بين أدب رفيع ونغم بديع، كان ولا يزال ولع المغاربة الأول والأصيل الى جانب الملحون. ولعلهما سلوة أنفاس وقوت أرواح وبهجة مجالس وأفراح، لمِا يقومان عليه من نغم وموشح وزجل وتوشية.. رغم كل هذا الزخم من حداثة وتقنية ولحن وضجيج منظم. وكما حال عدد من مدن المغرب العتيقة المحتضنة لهذا التراث الأصيل، لمدينة تازة من الأثر والعلامات ما يحيلها على  زمن أندلسي بهي، من أزقة وأحياء ومساجد لا تزال تحمل إسم أندلس. مدينة كانت خلال فترة الحماية الفرنسية قبلة لمن كانوا بخبرة موسيقية وأدوار وتأثير ملموس في هذا الشأن. لمِا أدخلوه من أثر ولمِا حملوه معهم من تراث غنائي وأساليب وتقنيات إحياء الليالي في فني طرب الآلة والملحون. نذكر على سبيل المثال أنه مع بداية خمسينات القرن الماضي نزل بتازة أحد المولوعين  بالمالوف قادما من تونس وقد عرف ب”البشير الغرايري”، والى جانب ما أحيط به من ترحاب وعناية كان حافزاً لتكوين عدد من هواة الموسيقى التازيين، ضمن مجموعة ضمت عناصر منها محمد بنصاري محمد بناني محمد بنويس وغيرهم كثير. وضيف تازة هذا لسنوات محدودة كان يلقي دروساً في موشحات وأناشيد غنائية خلال هذه الفترة، وبعد رحيله لأسباب ذات علاقة بأحداث وطنية، استمر اقبال هواة تازة على طرب الآلة إنما عبر أحد أبناء فاس هذه المرة ويتعلق الأمر ب.ادريس بلشهب الذي كان واسطة لترتيب زيارات أسبوعية لموسيقيين فاسيين الى تازة منهم مثلا ادريس السغروشني. وخلال نفس الفترة التي اعتبرت ذهبية بالنسبة لطرب الآلة في تازة، قدم الى المدينة عدد من الفاسيين المولوعين بهذا التراث للاحتماء وخوفاً من متابعات سلطات الحماية لهم. ومن هؤلاء هناك بلعيد السوسي والهادي بركًم .. على إثر اتصالات قام بها التازي أحمد الشراط، ليظل هؤلاء بتازة الى حين حصول البلاد على الاستقلال.

وكانت قد تأسست مع نهاية خمسينات القرن الماضي أول مجموعة موسيقية تازية، ضمت أحمد الشراط وامحمد بن حدوش والهادي فنيش ومحمد بنصاري ومحمد بناني….هذا قبل أن يحصل تحول نوعي في المشهد الموسيقي بتازة، بفضل “الخليفي” أحد الفاسيين العازفين المتميزين أنذاك على آلة الكمان بداية ستينات القرن الماضي. وقبل أن يبدأ إسهام تازيين يُسجل لهم ما كانوا عليه من فضل عموماً في إغناء الحركة الموسيقية بالمدينة والتحفيز عليها، ويتعلق الأمر بكل من الحسين الأمراني والطيب بن عصمان محمد بلغيت وغيرهم. وكان إحداث معهد موسيقي بتازة بداية سبعينات القرن الماضي ايقاعاً جديداً بالمدينة في هذا المجال، ساهمت فيه عدة أسماء فاسية في ترسيخ أسس علمية لطرب الآلة بتازة، عبر ما كانوا يقدمونه من دروس وما كانوا يحرصون عليه من تلقين وحفظ لصنائع وتعليم للعزف على الآلات الموسيقية. نذكر منهم الأساتذة محمد بريول وأحمد اطراشن ومصطفى العامري ونجيب العمراني وأحمد شيكي.

زخم علمي تكويني أول بمعهد تازة الموسيقي شكل أرضية لفترة، لا يمكن أن نقول عنها سوى أنها فترة موسيقية ذهبية غير مسبوقة في تاريخ المدينة بكل المقاييس، ولعلها فترة تميزٍ ارتبطت بتدبيرٍ وإدارةٍ للمعهد من قبل أحد أبناء تازة وأحد خريجي مدرسة/ منهج محمد الأشهب – وما أدراك ما جدية وقوة شخصية محمد لشهب الاستاذ الذي كان يتنقل من فاس لتازة لتدريس مادة الكمان الكلاسيكي-، ممن تميزوا بكفاية علمية موسيقية عالية ونبوغ وممن كانوا بشخصية إدارية قوية وهيبة فنية موسيقية وأخلاقية و”كاريزما «خاصة، يتعلق الأمر بالأكاديمي عبد اللطيف لمزوري مدير المعهد الموسيقي بتازة السابق، الذي يُشهد له ما كان عليه من تأسيس علمي وفضل في هذا المجال. فترة ذهبية علماً وتعليماً وإقبالا ونوعاً وجودة وإشعاعاً محلياً وطنياً ودولياً. ازدهرت فيها كل أشكال التعبير الموسيقي من موسيقى عربية وموسيقى غرفة غربية كلاسيكية ومن طرب آلة بمكانة خاصة في تازة بشكل غير مسبوقـ، تكفي الاشارة الى أن معهد تازة الموسيقي كان حاضراً بطلبته دوماً ولسنوات في المباريات الوطنية لنيل شواهد عليا بالرباط تحت إشراف وزارة الثقافة.

ويكفي أن تازة كانت حاضرة بجوقها لطرب الآلة في مواعيد موسيقية تراثية وطنية كبرى عندما كانت المواعيد الموسيقية مواعيد حقيقية والملتقيات الموسيقية ملتقيات حقيقة، بحث شاركت تازة من خلال جوق معهدها الموسيقي في ملتقى الأندلسيات الخامس عشر بشفشاون يوليوز 2000، موعد كانت تحتضنه وزارة الثقافة تحفيزاً للفرق الوطنية الفاعلة في هذا المجال وخدمة وصيانة لتراث طرب الآلة الأصيل. وكان هذا الموعد الفني التراثي الوطني الذي أثار فيه جوق تازة إعجاب عدد من الفنانين والمولوعين والباحثين، قد جمع فرقاً وطنية وأجواق عريقة بحفاظ وعازفين ومنشدين كبار عن مدن رائدة أنذاك ولا تزال، مثل فرقة سلا برئاسة عدنان السفياني وجوق فاس برئاسة محمد بريول وجوق شفشاون برئاسة محمد اغبالو وجوق تطوان برئاسة أحمد شقارة، وفرقة بلابل الأندلس برئاسة عبد الكريم العمارتي وجوق جمعية فويتح للموسيقى الاندلسية برئاسة أحمد الزيتوني، والفرقة النسائية بشفشاون برئاسة عائشة أبراق وجوق مكناس للموسيقى الاندلسية برئاسة محمد الهواري وجوق الرباط لطرب الآلة بالرباط برئاسة أمين الدبي ثم الفرقة الأندلسية لمدينة تطوان برئاسة الأمين الأكرمي.

مع أهمية الاشارة الى أن ملتقى الأندلسيات الخامس عشر الذي شارك فيه جوق تازة لطرب الآلة، كان قد تضمن حفل تكريم أحد أقطاب ورموز الآلة الأندلسية المغربية والمغاربية ويتعلق الأمر بمحمد العربي التمسماني. وإسهام تازة في هذا الموعد التراثي المتميز دليل على فترة ذهبية كان عليها المعهد الموسيقي، وعلى ما بلغته الآلة الأندلسية بالمدينة بفضل ذ. أحمد شيكي من ازدهار وتكوين وخبرة واشعاع. وجوق المعهد الموسيقي لطرب الآلة الذي كان يتكون من خريجي المعهد وأساتذة مكونين، والذي شارك في هذا الملتقى الوطني بشفشاون بحصة فنية من ميزان رصد الذيل. بدأ نشاطه سنة 1992 باسهامات محلية، شملت مهرجانات ثقافية وسياحية وأمسيات تراثية تكريمية وانسانية.

وعلى إثر ما طبع المعهد الموسيقي بتازة منذ بداية الألفية الثالثة من شلل شبه تام على امتداد حوالي العقدين من الزمن ويبدو أنه حال لا يزال عليه الى حين. وأمام شتات أتى على كل شئ من الإنجازات منذ إحداث المعهد الموسيقي بهذه المدينة بما في ذلك جوق طرب آلة كان مفخرة للمدينة. أمام كل هذا وذاك من الواقع يعلق الأمل على القادم من زمن المعهد الموسيقي في حلة وبناية قديمة جديدة، إنما من خلال ما ينبغي من أطر موسيقية عالمة ذات تكوين متين وخبرات وكفايات أساسية، والتي من شأنها استعادة مجد زمن جميل وتألق كان عليه جوق المعهد الموسيقي لطرب الآلة ومجد فترة ذهبية واسهامات كانت بصدى وطني ودولي. تكفي الاشارة في هذا الاطار لمشاركة مشرفة لجوق معهد تازة لطرب الآلة ممثلا للمغرب في مهرجان إكسبو 2000 ب”هانوفر” بألمانيا. بعض فقط من أوجه فعل فني وتراثي وموسيقي مشرقٍ كانت عليه تازة قبل حوالي العقدين من الزمن، في علاقتها بفاس من خلال جملة تجليات وعلى أساس ما كان عليه المعهد من تكوين وتأهيل وقيادة وتدبير وهيبة وتفاعل واعتبار.

                                                                     عبد السلام انويكًة

                                    باحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس مكناس

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.