السياحة الدينية ومفهوم الزوايا

تعد السياحة الدينية شكلا من أشكال السياحة المتعارف عليها، يسافر من خلالها الناس-أفرادا أو جماعات-إلى مدينة أو موقع مقدس عندهم، من أجل أداء شعائر دينية، أو خوض تجارب روحية ملموسة. والسياحة الدينية سفر من دولة إلى أخرى أو انتقال داخل حدود دولة بعينها لزيارة أماكن مقدسة؛ ولأنها سياحة تهتم بالجانب الروحي للإنسان، فهي مزيج من التأمل الديني والثقافي، أو السفر من أجل الدعوة، أو من أجل القيام بعمل خيري. وتعرَّفُ بأنها “تلبية نداء الدين، وإشباع العاطفة الدينية، وأداء واجباتها، كما تشمل زيارة الآثار والمعالم الدينية للتبرك بها وللاستشفاء الروحي والنفسي. وهناك أماكن خاصة بهذه السياحة مثل مكة المكرمة والمدينة المنورة بالنسبة للمسلمين، والقدس بالنسبة للمسيحين واليهود والمسلمين، والفاتيكان بالنسبة للمسيحيين” 1.
وتقوم هذه السياحة على زيارة الأماكن الدينية والسفر إليها، فيزيد الإيمان ويرتفع انتماء المسلم إلى آثاره الإسلامية، كما أنها تعتبر مهمة لدى السائحين بحيث تفكرهم في تدبر الخالق ومدى قدرته على قبض الأرواح، مما يجعلهم يتأملون في مصير حياتهم ونهايتها، إذ إن التعاليم الإسلامية حثت على زيارة القبور والتأمل فيها، لذا يمكن القول إن هذا النوع من السياحة هو أول ما ظهر في بداية حياة الإنسانية قبل ظهور الإمكانيات المتوفرة الآن.
ولقد كان الأوائل ينتقلون إلى أماكن التعبد مشيا على الأقدام أو على الجمال والخيول وبعد اكتشاف السيارات والقطارات والطائرات كان لهذه الوسائل دور فعال في تطوير صناعة السياحة حتى أصبحت تضاهي باقي الصناعات الأخرى. وظهرت أنواع أخرى أصبحت تنافس السياحة الدينية؛ فإذا نظرنا إلى السعودية كمثال نجدها قبل ظهور البترول تعتمد على مداخلها من السياحة الدينية في فترة الحج.
إن صناعة السياحة لم تعد كما كانت في السابق نمطا واحدا لكنها تشعبت وأصبحت تضم عدة فروع، فهناك سياحة المغامرات، والاطلاع على الغرائب، ومراقبة السكان وعاداتهم، وتسلق الجبال، وركوب الأمواج، والتزلج على رمال الصحراء. غير أن السياحة الدينية تظهر غالبا في ثلاثة أوجه:

أولا-الحج، وهو سفر-فيه إقامة ليلة أو أكثر-إلى أماكن العبادة الدينية، حيث يكون المحفز العميق هو الاقتناع بأن الصلوات والممارسات الدينية فعالة عل نحو استثنائي في هذه الأمكنة التي ترتبط بالقدسية والألوهية. وتتخلَّلُ هذا السفر عبادات كالصلوات ومناسك الحج…
ثانيا-المشاركة في التجمعات ذات الحجم الكبير مثل الأيام العالمية للشباب أو محاضرات التجمعات.
ثالثا-السفر الديني في نهاية أوقات الفراغ، كالرحلات البحرية، وزيارة المواقع والمقدسات الدينية، والتسلية، والمغامرة، وزيارة المواقع السياحية الترفيهية، وأشكال أخرى2 .
مفهوم الزوايا:
إن الزوايا هي أهم مكانٍ تعلم فيه الإنسان الصحراوي التعاليم الدينية الحنيفة؛ بحيث كان يسافر من أجل التعلم، وقد ورد في مخطوط البادية للأديب محمد المامي ولد البخاري ما نَصُّهُ: “الزاوية لغةً ركن البيت أو المسجد أو الدار أو شبه ذلك، وقد غلبت عند أهل المدن على زوايا المدارس المبنية للدراسة خاصة، إلا ما جمعت الدراسة والصلاة فإنهم يغلبون اسم المسجد على الدراسة كما في جامع الأزهر بالقاهرة، ويقولون في المدارس زاوية فلان المدرس، وزاوية العالم الفلاني، ثم إن المدارس في الاسلام قام أهلها بحمل فريضة العلم لا يأخذون السلاح” 3.
كما عرّف Jules Rickman الزاوية في قوله: “عندما يلبي شخص معروف بصلاحه، وكما يقول العرب متعلقا بالله (مربوط) واعيا بربه، يقيم مريدوه لجثته قبرا مقببا يصبح مزارا يقصده الناس للزيارة، وأحيانا تشيد مؤسسات دينية تدعى الزاوية؛ وهى مكان يشبه الأديرة يتوفر على جناح لأداء الصلاة وآخر للتدريس والتعليم” 4. وبعبارة أخرى كانت الزاوية في الأصل مدرسةً، ومقر استرشاد، ومستودع مؤونة، ومحلا لإطعام الطعام، وملجأ أمان5 .
أما الشيخ سيدي بابا (ت 1923م) فيرجع أصل الزوايا إلى صنهاجة؛ لأنهم يسمون بالمرابطين، وقد سمى بها سيدهم عبد الله بن ياسين أصحابه الأولين للزومهم رابطته، ثم صارت اسما لعامة صنهاجة3.
وفي السياق نفسه يقول محمد ضريف: “إن مؤسسة الزاوية بصفة عامة قد اعتبرها البعضُ الوجهَ المؤسس لظواهر المقدس، رغم أن القداسة ظلت سابقة تاريخيا لكل مؤسسة احتضنتها فيما بعد، ولا يمكن اعتبارها إلى جانب الشرف والبركة والقداسة إلا أبعاد لظاهرة واحدة، ألا وهي الديني بمعناه الأنثروبولوجي الواسع”6 .
وقد ارتبط مفهوم الزاوية (أو الزوايا) في الدراسات التاريخية والاجتماعية بالنموذج المغربي لهذه المؤسسة؛ وهذا راجع لكون هذه الدراسات انطلقت من تاريخ وواقع المغرب. وفي بلاد البيضان عموما والمجتمع الصحراوي خاصة، لا ينفصلٌ مفهوم “الزْوَايَا” في هذا المجال عن تاريخ ظهوره وارتباطه الوثيق بالبنية الاجتماعية والسياسية التي أنتجته، فهو يعبر عن مجموعة اجتماعية داخل مجتمع ترابي أكثر مما هي مؤسسة دينية صوفية قارة، فالزوايا هي قبائل تقوم بوظائف داخل نسق عام. وتحتل مركزا سياسيا انطلاقا من هذه الوظيفة وقيمتها الأخلاقية؛ فالزوايا هي فرقة من المجتمع الصحراوي هي أشبه بأهل المدارس المسماة الزوايا في لسان أهل المدن عرفا، فهي فئة مختصة في تعاليم الدين.
إن معنى كلمة زاوي في حد ذاته تدل على الطابع السلمي، فالمجموعات الزاوية تبنت خطابا يكرس وظيفتها السلمية ،كأهل كتاب مقابل حسان المحاربين. ويعبر الزوايا عن موقفهم من حمل السلاح في العبارة التالية “من حمل السلاح ترك الصلاح”. وتكمن أهم مميزات الزوايا في وظيفتهم الدينية وطابعهم السلمي؛ فالزوايا مبدئيا لا يحملون السلاح، ليس فقط لأن ليس لهم الحق في حمله ولكن أيضا لأن هذا السلوك يتنافى مع أخلاقياتهم وشيمهم المثالية كما وضعها محمد الديالي في القرن 18 في نصه الشهير “شيخ الزوايا”.
لقد أسهمت الزوايا والطرق الصوفية في ربط علاقة التواصل في ما بين سكان الصحراء، لأنها كانت الطريقة الدينية الحقيقية التي تربي الفرد تربية روحية ربانية، وتبني العلاقات الثقافية، وتساعد على التلاحم الاجتماعي، كما أن هذه الزيارات التي كان يقوم به سكان الصحراء تشجعهم على التمسك بالدين والإذعان لأوامره، باعتبار أن الزاوية المدرسة الوحيدة التي تقبل جميع الأجناس والقبائل والشعوب، قادمين من كل بلد هدفهم الوحيد الاعتصام بحبل الله، والتقرب إليه من خلال الزوايا والأولياء الصالحين، وهذا ما جعل قبائل الصحراء جسدا واحدا يدافعون عن الزاوية وعن شرف القبيلة والتشبث بالأصل والشرف والافتخار بالتقرب إلى الولي الصالح.

ـ ماهر عبد الخالق السيسي: صناعة السياحة الاساسيات والمبادئ؛ الطبعة الأولى1997، مكتبة المدبولي، القاهرة، 2010، ص. 43.
2-Le Tourisme Religieux : portrait, profil du voyageur et potentiel de développement, pocit, P. 5.
3ـ حماه الله ولد السالم: تاريخ موريتانيا العناصر الأساسية: قضايا تاريخية؛ العدد 9، منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2007، ص. 143.
4ـ جولي إركمان: الزوايا والطوائف الدينية بالمغرب؛ تر. مليكة هلال، مجلة أمل، عدد 22ـ23، 2001، ص. 27.
5ـ عبد العزيز فعراس وزهرة فعراس: أولاد تيدرارين الأنصار: المراسم الدينية والملتقيات الثقافية استحضار للرمزية الروحية والتاريخية لقبيلة صحراوية، مطبعة طوب بريس، الرباط،2012، ص. 79.
6ـ ضريف محمد : “مؤسسة الزوايا بالمغرب الاسلامي إلى حدود 1912: مساهمة في التركيب”، المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، العدد1، السنة الأولى 1996، ص. 55.

 

بقلم الدكتور: محمد مولود امنكور متخصص في التراث والتنمية السياحية

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.