قال ألبرت أينشتاين ذات مرة: “لو لم أكن فيزيائيا لأصبحت موسيقيا في الغالب، عادة ما أفكر بالموسيقى، أعيش أحلام اليقظة الخاصة بي من خلالها، وأرى مفردات حياتي بلغة الموسيقى”، أما تشارلز داروين فقد قال في يومياته: “إذا كان من الممكن أن أعيش حياتي مجددا، فسوف أجعل من قراءة الشعر، والاستماع للموسيقى، ومشاهدة اللوحات الفنية، قاعدة أساسية في حياتي، ولو مرة واحدة أسبوعيا”، مستكملا بعد قليل: ” فقدان هذه الأذواق هو فقدان السعادة”.
على مدى تاريخنا كبشر، وجدت الموسيقى أهمية واسعة في كل جوانب ثقافتنا، بل لن نكون مبالغين أبدا إن قلناإن تاريخ الموسيقى هو أيضا تاريخ للجنس البشري كاملا عبر ثلاثمئة ألف سنة مضت. ورغم أننا لا نعرف بعد إن كانت الموسيقى جاءت أولا أم الرقص، أو كيف تطورت لتصبح بالصورة التي نعرفها في حياتنا المعاصرة، فإنها لا شك ساهمت في رفع درجات ترابط الجماعات البشرية الأولى مع بعضها البعض، فبقيت معنا.
هناك في الحقيقة الكثير من الفوائد للموسيقى بجانب دعمها للترابط بين الناس، في الحقيقة فإن نطاقا بحثيا كاملا يقوم الآن على محاولة فهم آثارها الطبية والنفسية، وطالما سمعنا في التلفاز أو قرأنا على وسائل التواصل أن هناك بحثا ما يقول إن الموسيقى لها دور علاجي، وإنها يمكن أن تساعدنا على الإبداع بسبب ما تضعه بنا من شعور مسترخٍ ومنتظم في الوقت نفسه، بل وأصبح شائعا أن تشغّل مجموعة من المقطوعات الموسيقية، أو الأغاني التي تحبها، في الخلفية بينما تستذكر دروسك أو تؤدي عملا يتطلب منك بعض التركيز كالقراءة أو قيادة السيّارة، لكن هل يحدث ذلك فعلا؟ هل يمكن للموسيقى أن تساعدنا على التركيز والإبداع في مهامنا التي نؤديها؟
حسنا، في تلك النقطة، فالأمر أكثر تعقيدا مما تظن. للوهلة الأولى قد تجادل بأن أداءك في الاستذكار يتحسن بشكل واضح بينما تشغّل موسيقى في الخلفية، وقد تقول إن الموسيقى، بكل أشكالها، سواء كانت أغاني أو موسيقى فقط، قد ساعدتك في الثانوية العامة أو الجامعة من أجل الحصول على درجات جيدة، لكن هل يعني ذلك أي شيء؟ بمعنى أوضح، لا يمكن بسهولة أن تحدد ما إذا كانت الموسيقى قد ساعدتك إلا حينما تقارن أجواء استذكرت فيها دروسك بوجودها مع أخرى لم تشغل الموسيقى أثناءها، أضف إلى ذلك مشكلة أخرى تتعلق بسؤال مهم: ماذا لو كان حُبُّك للاستذكار في وجود الموسيقى متعلقا فقط بالتأثير المهدئ الذي تعطيه إيّاك وليس لأنها تساعد على التركيز؟ بينما تفضل أنت الأول على الثاني دون أن تدري.
في الواقع، فإن ذلك الجزء من العملية حقيقي، وممتد إلى نقطة أخرى تتعلق بدرجات انتباهنا. لنفترض أنك الآن تجلس، في منتصف الليل بعد أن نام الجميع، لتستذكر مادة دراسية مهمة سوف تجتاز امتحانا خاصا بها في الصباح، وهي مادة مملة بالفعل وأنت غير راغب في الاستمرار بتلك المهمة الصعبة لكنك مضطر إلى ذلك، هنا تعمل منظومة الانتباه الدماغية الأساسية في صفك، ستحاول أن تضع كل تركيزها على تلك المهمة، لكن هناك منظومة أخرى للانتباه بدماغك أقل وعيا تعمل في الخلفية، وتصبح أكثر حساسية حينما نؤدي مهمة غير ممتعة.
بسبب تلك الحساسية، ستدفعك تلك المنظومة الجانبية للتشتت قليلا مع كل فرصة صغيرة لإدراك أي شيء في محيطك: صوت سيّارة في الشارع، وقوع شيء ما عند الجيران، نقاط المياه في الحوض، إلخ. هنا قد تعمل الموسيقى على تنظيم ذلك النطاق، بخلق تلك الضوضاء الناعمة والممتعة في خلفية استذكارك لدروسك، يشبه الأمر(3) أن تعطي لعبة لطفل صغير كي يهدأ ويتركك تؤدي مهامك بهدوء وتركيز تام، لكن هل هو كذلك بالفعل؟
كما يبدو، فإن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فمع قدرة الموسيقى على تنظيم عواطفك ودفعك لأجواء إيجابية، فإنها لا تساهم في رفع درجات التركيز نفسها، في تلك النقطة يمكن أن نتأمل دراسة(4) لفتت الانتباه حول هذا الموضوع قبل عدة سنوات، حيث قام باحثون من جامعة كارديف متروبوليتان الأميركية بتقسيم الطلاب الخاضعين للاختبار إلى أربع مجموعة، الأولى استمعت في الخلفية إلى موسيقى فقط، والثانية إلى نوع من الأغاني محبب بالنسبة لهم، والثالثة إلى نوع من الأغاني لا يفضلونه، والأخيرة إلى لا شيء، فقط الصمت المطبق.
خضع المشاركون في الاختبارات إلى اختبارات قراءة وفهم، حيث طلب إلى كل منهم قراءة مجموعة من ست قطع مقالية (عن صناعة الأفلام الصامتة، تنوع الحياة، قيمة الصحافة، ونشأة علم الوراثة)، ثم إجابة ستة أسئلة عن كل قطعة منهم، بعد ذلك قام الفريق البحثي بمقارنة النتائج بين المجموعات الأربعة، والتي جاءت(5) لتقول إن هؤلاء الذين قرأوا تلك المقالات في أجواء صامتة كانوا أفضل في أدائهم بمقدار 60% من هؤلاء الذين أدوا المهمة نفسها في أجواء احتوت أغاني في الخلفية.
في المقابل من ذلك، يبدو أن نوع الأغاني لم يتسبب في أي فارق واضح في النتائج، ما يشير إلى أن المشكلة كانت ذات علاقة بوجود كلمات في الخلفية بالأساس، خاصة وأن الطلبة الذين أدوا المهام نفسها في أجواء احتوت على الموسيقى فقط كانوا أكثر تركيزا، كما يبدو، من أقرانهم الذين استمعوا إلى الأغاني في الخلفية، وتحسنت نتائجهم(6) كثيرا لكنها كانت أقل بفارق 15-20% من الطلبة الذين اجتازوا الاختبارات في هدوء تام.
من جهة أخرى، فإن ما نسميه بـ “تأثير الصوت غير ذي الصلة”(7) (irrelevant sound effect)، يضيف الكثير من العقبات أمام الفكرة التي تقول إنه يمكن أن نصبح أكثر تركيزا مع الموسيقى. على سبيل المثال، في مجموعة من التجارب، كان على الخاضع للتجربة أن يتذكر مجموعة من الحروف أو الأرقام التي تعلمها قبل قليل بترتيب محدد، خاض الخاضعون للتجارب ذلك في عدة مجموعات شبيهة بما حدث في تجارب جامعة كارديف متروبوليتان التي تحدثنا عنها قبل قليل.
وجاءت النتائج(8) لتقول إن الأداء كان أفضل في حالة الصمت التام، ثم الموسيقى بدون كلمات، ثم الأغاني، سواء أحبها الخاضع للتجربة أم لم يحبها. يبني هذا النوع من التأثيرات نفسه على قاعدة بسيطة تقول إننا في حاجة دائما إلى معالجة المعلومات المتاحة أمامنا، ورغم أن الموسيقى قد يكون لها تأثير مهدئ، فإنها تتطلب قدرا من انتباهنا ليتم معالجتها، وهو ما نقتطعه من المهام التي نؤديها في أثناء الاستماع إلى الموسيقى أو الأغاني بأنواعها.
أضف إلى ذلك أن فريقا بحثيا من عدة جامعات سويدية وإنجليزية قد أخذ تأثير الموسيقى في الخلفية إلى منطقة مختلفة، فنحن كثيرا ما نقرأ أو نسمع عن تأثير الموسيقى في تحفيز قدراتنا على العمل بصورة إبداعية، لكن مع تلك المجموعة الجديدة من التجارب، والتي نشرت في دورية “أبليد كوجنيتف سايكولوجي”، يبدو أن هذا الادعاء لا يصمد بشكل جيد.
في التجربة(9) الخاصة بهم، قسّم الفريق البحثي المجموعة الخاضعة للتجارب إلى ثلاث مجموعات، الأولى استمعت موسيقى فقط، والثانية استمعت إلى أغنية مألوفة، والثالثة أغنية جديدة كلماتها ليست مألوفة لهم، ثم في أثناء ذلك خضع الجميع لمجموعة من الاختبارات التي تقيس إحدى المهام الإبداعية المهمة، وهي ما يسمى بالبصيرة اللغوية (verbal insight)، أي قدرة الشخص على الربط بين كلمات تظهر للوهلة الأولى بلا أي عامل مشترك بينها، على سبيل المثال كلمات كـ (dress, dial, flower) تبدو للوهلة الأولى غير مرتبطة، لكن على الرغم من ذلك يمكن أن ترتبط جميعها بكلمة Sun في كلمات: (sundress, sundial, sunflower). هنا جاءت النتائج لتقول إن أداء الخاضعين للتجارب، في الحالات الثلاث، كان سيئا بفارق واضح عن أقرانهم الذين خضعوا للاختبارات الإبداعية نفسها في خلفية صامتة.
لكن، في النهاية، فإنه ليس واضحا بالكامل فارق تأثير نوعية الموسيقى التي تسمعها على أدائك. بمعنى أوضح، لنفترض أنك بالفعل قد تعوّدت على الاستماع للأغاني والموسيقى أثناء استذكار دروسك وأنك لا تهتم، وهذا حقك بالطبع، بنتائج تلك التجارب، وتجد لنفسك درجة واسعة من الراحة في وجودها بالخلفية، هنا يمكن القول إنه ليس لكل الأنواع من الموسيقى التأثير نفسه عليك، في تلك النقطة يمكن أن نتأمل دراسة من جامعة كامبريدج(10) صدرت فقط قبل عامين تقسّم الأغاني في الخلفية إلى أربعة أنواع.
بينت النتائج أن الموسيقى لم تساعد على رفع القدرة على التذكر، وكانت أسوأ حالات التشتت هي التي جاءت مع موسيقى مثيرة بشكل كبير
حيث يمكن للموسيقى أن يكون لها تأثير على مزاجك (سعيدة أم حزينة) وحالات الإثارة الخاصة بك (موجبة أو سالبة)، وبذلك يمكن أن تكون هناك أربعة أنواع من الموسيقى اعتمادا على دمج التأثيرين معا، حيث ستكون هناك: أغنيات سعيدة لكنها موجبة، وسعيدة لكنها سالبة، وحزينة لكنها موجبة، أو حزينة لكنها سالبة (في المصادر(11) يمكن لك الاستماع للأنواع الأربعة من الموسيقى)، في أثناء الاستماع للأنواع الأربعة من تلك الموسيقى قام الخاضعون للتجارب بأداء مجموعة من الاختبارات الخاصة بالذاكرة.
هنا جاءت النتائج لتقول إنه، في كل الحالات، لم تساعد الموسيقى على رفع القدرة على التذكر، وكانت أسوأ حالات التشتت هي التي جاءت مع موسيقى مثيرة بشكل كبير، ما يشبه الأغاني الشعبية على سبيل المثال في حالتنا العربية، بينما أقلها جاءت من الأغاني الهادئة، وكان المزاج الحزين في الأغنية صاحب تأثير أكبر في الحالتين، بحيث كانت الأغاني الهادئة ذات التأثير الحزين أقل قدرة على تشتيتك، والمثيرة ذات التأثير الحزين أكثر تشتيتا.
لكن، في تلك النقطة من حديثنا، دعنا نوضح أن الأمر ليس محسوما بعد إن كان للموسيقى تأثيرات سلبية شديدة على انتباهنا أثناء أداء مهام تتعلق بالتركيز أو الذاكرة أو الإبداع، أم أنها تأثيرات طفيفة. في بعض التجارب -على سبيل المثال- كانت التأثيرات الخاصة بأغانٍ مألوفة أقل تشتيتا، في تجارب أخرى كان هناك بعض التأثيرات الإيجابية بدرجة طفيفة أو محايدة، والمشكلة في هذا النطاق البحثي هو تدخل عدة معايير أخرى في التجارب، أهمها العامل البشري المتغير بطبعه، خاصة وأن العيّنات لم تكن كبيرة كفاية لأحكام مطلقة. لكن على الرغم من ذلك، فإن الإشارات في هذا النطاق البحثي، إلى الآن، تميل إلى تأييد التأثيرات السلبية للموسيقى أو الأغاني في الخلفية على التركيز والإبداع، وتكتسب جميعها دعما معقولا كذلك من الفكرة القائلة إن تركيزنا لا يمكن أن يقسم لمعالجة موضوعين معا.
أضف إلى ذلك أن تأثير الموسيقى في الخلفية ليس مفهوما بالكامل على نطاق أوسع، خذ مثلا تلك المجموعة من الدراسات(12،13) التي تربط بين كم المبيعات من الأسواق والموسيقى في الخلفية، إنه مشهد متكرر في الأسواق التي نرتادها جميعا، خاصة حينما نكون على مقربة من شهر رمضان مثلا فتدخل السوق لتجد أغاني كـ “مرحب شهر الصوم” أو في عيد الأم حينما تعمل أغنية “ست الحبايب” أثناء شرائك لهدية والدتك، تؤثر تلك الأغاني على عاطفتك وتدفعك لشراء هدية أكبر أو أغلى، كذلك فإن التأثير العاطفي للموسيقى يظل فعالا بجانب قدرته على تشتيت الانتباه
في النهاية، فإن هوسنا، نحن البشر، بالموسيقى أمر غير مفهوم بعد، لماذا تثير الموسيقى انتباهنا ومشاعرنا إلى تلك الدرجة؟ إن طفلا في الشهور الأولى من عمره سوف يستجيب للموسيقى كشخص كبير، سوف يتأهب ويتراقص مع بعضها، ثم مع البعض الآخر الحزين منها سيركن إلى كتفي أمه ليهدأ قليلا. ونحن نفعل الشيء نفسه، حتى حينما نسمع فصول موسيقى فيفالدي (Vivaldi) الأربعة فنحن نتمكن، فقط عبر موسيقاه، من معرفة عن أي فصل تتحدث مقطوعته الخاطفة، ما الذي يحدث هنا؟ لماذا تؤثر الموسيقى بنا -نحن البشر- إلى تلك الدرجة؟