لعبة الانقلابات الأميركية.. هل ينجح ترامب في تغيير النظام الفنزويلي؟

تخبرنا مطالعة بسيطة للتاريخ الحديث بما فعلته الولايات المتحدة عام 1979 بالحكومة اليسارية في السلفادور، أصغر دول أميركا الوسطى وأكثرها كثافة سكانية، عندما أطاح انقلاب عسكري مدعوم من الأولى بالثانية، وبحلول نهاية عام 1981 كان الانقلاب العسكري قد أفضى إلى حرب أهلية، بين الحكومة اليمينية الجديدة المدعومة أميركيا وبين المعارضة اليسارية المسلحة، راح(1) ضحيتها أكثر من 75 ألف شخص، لكن ما حدث في معظم فصول تلك الحرب كان بمنزلة نزهة أمام ما وقع في بلدة “إل موزوتي” النائية، شمال شرقي البلاد، والتي شهدت أبشع جولات المعركة وأكثرها قسوة ووحشية على الإطلاق.

فبعد ظهر اليوم العاشر من شهر ديسمبر/كانون الأول لذلك العام، وصل(2) 5000 جندي من وحدات كتيبة المشاة السريعة الانتشار المعروفة باسم “أتلاكتيل”، التابعة للجيش السلفادوري والمدربة أميركيا، إلى البلدة بعد عدة معارك ضمن حرب عصابات قادتها الكتيبة ضد المعارضة المتمردة في البلدان المجاورة، حيث كانت مهمتها العسكرية هي القضاء على معاقل المعارضة في المنطقة الشمالية التي اعتقد الجيش أنه يجري استخدامها كمعسكرات ومراكز لتدريب وتجنيد المعارضين.

لكن “إل موزتي” كانت حالة فريدة من نوعها في هذا الصراع إلى حد كبير، فالبلدة الصغيرة، المكونة آنذاك من 20 منزلا بسيطا على أقصى التقديرات مع كنيسة أصغر ومدرسة قريبة، لطالما سعى أهلها المسالمون للنأي بأنفسهم عن جولات المواجهات الدموية التي تشهدها البلاد، لذا فإنهم استجابوا لتطمينات الجيش الذي أعلن أن وحداته ستمر بالبلدة مرورا سريعا في طريقها لملاحقة المتمردين، غير أن ما حدث في صبيحة اليوم التالي لوصول جنود “أتلاكتيل” إلى البلدة لم يخطر على مخيلة سكانها البسطاء في أبشع كوابيسهم، حيث قام الجنود بتجميع سكان القرية بأكملهم في ساحة وقاموا بفصل الرجال عن النساء والأطفال وشرعوا في استجواب وتعذيب وإعدام الرجال ميدانيا وبشكل وحشي.

في أعقاب ذلك، بدأ الجنود في التحول إلى النساء والفتيات، حيث تم اغتصاب معظمهن قبل أن يطلق عليهن النار بشكل جماعي، وأخيرا جاء الدور على الأطفال الذين تم إعدامهم عن طريق شق الحلق قبل أن يتم التمثيل بجثثهم بتعليقها على الأشجار، وفي نهاية المطاف، اختتم الجنود عرضهم الدموي بإضرام النيران في جميع منازل البلدة.

كانت مذبحة إل موزتي عملا وحشيا حتى بمقاييس الحرب الأهلية نفسها، لذا لم يكن من المستغرب أن تُعرف(3) على أنها المذبحة الأبشع في التاريخ الحديث لأميركا اللاتينية بعد أن تمت إبادة سكان البلدة البالغ عددهم أكثر من 900 شخص، وكان من الطبيعي أن تسعى إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان لتبرئة ساحتها من المذبحة نافية حدوثها من الأساس، وواصفة التغطيات الخبرية حولها أنها نتاج دعايات العصابات الشيوعية في السلفادور، ولكنّ رجلا بعينه في واشنطن تجاهل ريغان تماما، وذهب(4) لأبعد مدى في الدفاع عن جرائم الوحدات السلفادورية المدعومة من أميركا، مثنيا على “احتراف الكتيبة القاتلة” وواصفا سجل الإدارة الأميركية في السلفادور ودعمها للحكومة اليمينية هناك بأنه “أحد إنجازاتها الرائعة”، رجل يُدعى “إليوت أبرامز”.

في ذلك التوقيت كانت دول أميركا اللاتينية في بداية تعارفها مع أبرامز، مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الدول الأميركية الذي تم تعيينه للتو، لكن تلك الدول، حكومات وشعوبا، لا تذكر أي أميركي اليوم على الأرجح كما تذكر “أبرامز”، فبالنسبة للسياسي الصاعد، والمساعد السابق(5) للسيناتور “هنري سكوب جاكسون” الأب الروحي لمن سيُعرفون لاحقا في السياسة الأميركية باسم المحافظين الجدد، وهم حفنة من السياسيين المحافظين الذين دعوا لتوسيع سلطة أميركا عبر فرض الديمقراطية على الدول الأخرى وتغيير النظم غير المرغوب فيها وانتهاج سياسة خارجية أكثر عسكرية وبطشا. بالنسبة له لم تكن مغامرة السلفادور سوى البداية، فعلى مدار أربعة عقود تالية عمل إليوت أبرامز كعراب للانقلابات العسكرية المخططة أميركيا، وكبوق للحروب الأميركية “القذرة” من أميركا اللاتينية إلى الشرق الأوسط، مع نفوذ قوي في اثنتين من أكثر الإدارات تأثيرا في التاريخ الأميركي اللتين تمت الهيمنة عليهما بواسطة المحافظين الجدد: إدارتا رونالد ريغان وجورج بوش الابن.

لكن ومع صعود باراك أوباما إلى البيت الأبيض عام 2009، انزوى إليوت أبرامز عن الساحة السياسية واتجه إلى العمل البحثي، حيث عمل زميلا لمجلس العلاقات الخارجية وكاتبا في عدد من الصحف، قبل أن يُستدعى اسمه إلى دائرة الضوء مجددا كمرشح لتولي منصب نائب وزير الخارجية السابق في إدارة ترامب “ريكس تيلرسون” في عام 2017، غير أن ترامب عارض ذلك الترشيح بسبب خلافاته الشخصية مع أبرامز الذي دأب(6) على مهاجمته خلال حملته الانتخابية، قائلا إن ترامب “غير لائق ليكون قائدا أعلى للقوات المسلحة”.

إلا أن الرئيس الأميركي يبدو وكأنه أكثر استعدادا للرضوخ لمطالبات وزير خارجيته الحالي “مايك بومبيو”، من قام(7) مؤخرا بتعيين أبرامز مبعوثا خاصا للولايات المتحدة إلى فنزويلا، على خلفية التطورات السياسية المتلاحقة في البلاد ومساعي واشنطن لدعم الانقلاب الناعم على الرئيس اليساري “نيكولاس مادورو”، في خطوة بدا خلالها أن السياسة الأميركية قد امتطت آلة زمن عائدة أربعين عاما إلى الوراء لحظيرتها وخطتها التقليدية في أميركا اللاتينية، باحة واشنطن الخلفية والمختبر التاريخي لسياساتها “القذرة” كما تسمى للانقلابات وتغيير الأنظمة وتغذية الحروب الأهلية.

مبدأ مونرو منذ صعودها كقوة كبرى في القرن التاسع، اعتبرت الولايات المتحدة نصف الكرة الغربي، والقارتين الأميركيتين على وجه التحديد، مجالا خالصا لنفوذها، ولذا فإن واشنطن أبدت قدرا ضئيلا من التسامح تجاه أي منافسة لها في هذا الفضاء، وهو ما تجلى في مبدأ مونرو(8) الذي أعلنه الرئيس الأميركي الأسبق “جيمس مونرو” أمام الكونغرس عام 1823، من نص على ضمان أميركا لاستقلال جميع دول نصف الكرة الغربي، وكان ذلك يعني أن واشنطن لن تسمح لدول أوروبا بإقامة مستعمرات غربية جديدة في أميركا اللاتينية.

ظل مبدأ مونرو الأميركي خاملا سياسيا لقرابة قرن من الزمان، ولم يسمح لواشنطن بزيادة نفوذها في دول أميركا اللاتينية التي استاءت من الطريقة التي فرضت الولايات المتحدة بها نفسها عليها، واستمر هذا الوضع حتى مطلع القرن العشرين وقدوم الرئيس الأميركي “ثيودور روزفلت” الذي منح قبلة الحياة لمبدأ مونرو، حيث تم إرسال(9) الجيش الأميركي إلى بنما عام 1902، ثم إلى الدومنيكان عام 1907، ولاحقا إلى نيكاراغوا وكوبا وهندوراس عام 1912، ثم إلى هايتي وغواتيمالا عامي 1915 و1920 على الترتيب.

وفي أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية وصعود الرئيس “فرانكلين ديلانو روزفلت”، أعاد الأخير تعريف مبدأ مونرو قائلا إن الدفاع عن نصف الكرة الغربي “يعد واجبا جماعيا”، ونتيجة لذلك قام روزفلت بسحب القوات الأميركية تدريجيا من الدول اللاتينية الصغيرة التي احتلّتها، لكن مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وبروز الاتحاد السوفيتي الشيوعي كقوة وحيدة منافسة لأميركا بعد انهيار أوروبا، بدأت الأخيرة تشعر بمزاحمة موسكو خاصة بعد ظهور موجة من الأنظمة “الشيوعية الثورية” في أميركا اللاتينية في مواجهة الديكتاتوريات المدعومة من الولايات المتحدة، وفي ذلك التوقيت كان عهد التدخلات العسكرية المباشرة قد أفل، وكان على واشنطن أن تطور سياسات بديلة للتعامل مع الأنظمة غير المرغوبة في فنائها الخلفي.

ولأجل ذلك كانت السياسة الأميركية المختارة (10) في تلك الفترة هي دعم وتحفيز الانقلابات العسكرية ضد الأنظمة الشيوعية حتى وإن كانت منتخبة ديمقراطيا، ووقعت ضربة البداية الفعلية لتلك المباراة الطويلة في غواتيمالا عام 1954، حين تدخلت الاستخبارات الأميركية “سي آي إيه” ودبّرت انقلابا عسكريا على الرئيس “جاكوبو أربينز غوزمان” خوفا من تحول البلاد إلى جسر سوفيتي لنصف الكرة الغربي، لتثبت بدلا منه الكولونيل “كارلوس كاستيو أرماس”، ولتدخل غواتيمالا إثر ذلك في عقود من القمع الوحشي والحروب الأهلية التي أودت بحياة ما لا يقل عن 200 ألف شخص حتى منتصف التسعينيات.

وبعد عقد واحد من الزمان، دبرت(11) واشنطن انقلابا مماثلا في البرازيل، أهم دول أميركا اللاتينية، انقلابا أطيح خلاله بالرئيس المنتخب لصالح ديكتاتورية عسكرية مدعومة أميركيا، أما في عام 1973 فكانت الجولة الأشهر من نصيب تشيلي، حيث استخدمت المخابرات الأميركية تكتيكات مماثلة ضد الحكومة المنتخبة بقيادة الرئيس الاشتراكي “سلفادور أليندي”، من أطيح به في انقلاب قاده الجنرال “أوغستو بينوشيه” والذي بقي في الحكم بعدها حتى عام 1990.

وفي عام 1976 دعمت واشنطن انقلابا عسكريا قاده الجنرال “خورخا فيديلا” في الأرجنتين ضد الرئيسة “إليزابيث بيرون”، عاشت الدولة اللاتينية على إثره حقبة دموية في تاريخها، حيث قام النظام العسكري بقتل وإخفاء أكثر من 30 ألفا من معارضيه، ورغم الانتقادات التي أصابت سمعة أميركا الدولية بسبب دعمها للنظام العسكري الأرجنتيني الذي كشف الستار عن وجهه القبيح إبان منافسات كأس العالم التي استضافتها البلاد عام 1978، حافظت واشنطن على النهج ذاته في الثمانينيات بعد صعود الرئيس رونالد ريغان، وفريقه الأميركي الجديد وفي مقدمته إليوت أبرامز.

فبعد أن تولى أبرامز ملف دعم الحكومة اليمينية في السلفادور والتي قتلت الآلاف من البشر بأسلحة أميركية وبأيدي جنود تم تدريبهم في الولايات المتحدة، فقد وجه جهوده بعدها نحو نيكاراغوا، حيث كانت عصابات “الكونترا” المدعومة أميركيا تقاتل ضد النظام الشيوعي في البلاد. فبعد أن فشل ريغان في إقناع الكونغرس بتقديم التمويل اللازم للكونترا، فقد لجأ إلى عقد صفقة مع الشيطان -من وجهة نظر الأميركيين- وهو نظام الملالي في إيران، وفي مقابل الإفراج عن الرهائن الأميركيين المحتجزين لدى نظام “الثورة الإسلامية”، وافقت واشنطن على عقد صفقة أسلحة سرية مع النظام الإيراني، وعلى الجانب الآخر فإنها استخدمت عائدات هذه الصفقة لتمويل مسلحي الكونترا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.