“الشبكة العلمائية الدمشقية”.. القصة الكاملة من النشأة حتى التفكك

ي هذا التحقيق، وبالاشتراك مع عبيدة عامر، وبالاعتماد على المقابلات والرصد الميداني بجانب الأدبيات والبيانات يحاول موقع ميدان تحديد العناصر الفاعلة في “الشبكة العلمائية الدمشقية” كياناتٍ وأفرادًا وتفكيك علاقات هذه الشبكة من ناحيتين: خارجية؛ علاقة الكيانات ببعضها، وداخلية؛ علاقة الأفراد داخل الكيان الواحد. ثم رصد ما طرأ على الشبكة من تفرعات وانقسامات، ثم محاولة فهم دينامياتها الداخلية وصولًا لاستشراف مستقبلها المرتبط بالضرورة بمستقبل سوريا اجتماعيًّا وسياسيًّا؛ بما تمثله وتحمله من رمزية دينية وأهمية ومكانة اجتماعية.

في دمشق، أرض التناقضات، بإمكانك الخروج من مقام رأس الحسين في الجامع الأموي، لتتجه يمينًا نحو بابٍ يقودك إلى مقام السيدة رقية، وإذا اتجهت يسارًا، فإن الباب سيوصلك إلى حي النقّاشات حيث قبر معاوية بن أبي سفيان، ولو مررت إلى جانب نهر ابنه يزيد الذي جفّ منذ زمن في منطقة الصالحية ستجد الناس هناك يقصدون قبر الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي داخل مسجده الشهير تاركين وراء ظهورهم قبر شيخ الإسلام ابن تيمية الذي انمحى أثره أو كاد في منطقة البرامكة تحديدًا في جامعة دمشق حيث يجتمع الأقوام من كل حدب وصوب. كان المشهد على سطح الأرض لا يقل تناقضا عن باطنها، خصومة جلية وتناحر يصل حدّ العداوة، دينيا بين الشيخ الأكبر “بن عربي” وشيخ الإسلام “بن تيمية” على حراسة الدين ومنطلقاته العقدية، وتناحر سياسي لازالت مشاهده قائمة بين معاوية والحسين على منظومة مُلك المسلمين؛ مشهد سيظل متكررا في دمشق: تشابه وتقارب في ظاهر المباني، واختلاف وتباعد في باطن المعاني.

بالقرب من كل هذا؛ حيث تقبع كلية الشريعة على جسر الرئيس الفاصل بينها وبين فندق الفورسيزون كان الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي يخرج من محاضرات العقيدة التي يدرِّس بها درّة كتبه “كبرى اليقينيات الكونية” متجها إلى مسجد الإيمان، يلقي هنالك درسه الأسبوعي “شرح رياض الصالحين” قبل أن يعود إلى بيته في حي ركن الدين، حيث ما زال ورثة الشيخ ابن عربي حول مقامه، يحملون تركته، أقربهم مسجد الشيخ عبد الغني النابلسي، وأبعدهم مسجد أبو النور وفيه يمارس أتباعه الطقوس الصوفية النقشبندية، بجانب معهده الذي يدرّس العلوم الشرعية، مشابها بمبناه “معهد الفتح الإسلامي”، البعيد طريقًا وطريقةً، والمتصارع معه على تصدّر المعاهد الشرعية، والذي أسسه صالح الفرفور تلميذ علامة دمشق والمحدث الأكبر بدر الدين الحسني، بجانب زميله ومعاصره عبد الكريم الرفاعي، الذي يسمى باسمه المسجد الذي لا تخطئه العين في مدخل تنظيم كفرسوسة، الحي الدمشقي الراقي، في شبكة “علمائية” للنخبة الدينية الدمشقية السنية، والتي لا تقل تعقيدًا عن شوارع دمشق وحاراتها القديمة، ومؤكدة أضدادها ما بين المبنى والمعنى.

اليوم؛ لم يبقَ من الشبكة ظاهريًّا شيءٌ مما كان عليه؛ اغتيل البوطي في مسجده، وتغير اسم مسجد عبد الكريم الرفاعي ليصبح مسجد كفرسوسة الكبير  بعد نفي آل الرفاعي خارج سوريا إلى تركيا، وتحالف الخصماء في “معهد الفتح الإسلامي” و”مجمع أبو النور” بجانب “مجمع (حوزة) السيدة رقية” الشيعي ليشكّلوا “جامعة بلاد الشام” تحت مظلة وزارة التعليم العالي ووزارة الأوقاف، في اختلال بدا جوهريا لديناميات الشبكة وعلاقاتها مع المجتمع والسلطة، حيث يأتي كل ذلك ضمن الاختلالات الكبرى التي أحدثتها ثورة آذار 2011 السورية. أما باطنيًّا فالشروخ والانقسامات والامتدادت عقّدت الشبكة ووسّعتها من ناحيتين: ناحية جغرافية؛ لا خارج دمشق وحسب، بل خارج سورية حاملة بذور الشبكة الأولى وانقساماتها. وناحية وظيفية؛ إذ أصبح حراس الدين إغاثيين ومفاوضين سياسيين وحتى قادة عسكريين بجانب وظيفتهم الدينية والاجتماعية الأساسية.

في هذا التحقيق وبالاعتماد على المقابلات والرصد الميداني بجانب الأدبيات والبيانات يحاول موقع ميدان تحديد العناصر الفاعلة في هذه الشبكة وتفكيك علاقاتها معًا، ورصد ما طرأ عليها من تفرعات وانقسامات، ثم محاولة فهم دينامياتها الداخلية وعلاقاتها وصولًا لاستشراف مستقبلها المرتبط بالضرورة بمستقبل سوريا اجتماعيًّا وسياسيًّا؛ بما تمثله وتحمله من رمزية دينية وأهمية ومكانة اجتماعية.

عشيةَ إصدار فرنسا العفوَ عن المحكومين بالإعدام عامَ 1937 عاد الشيخ الإصلاحي محمد كامل القصاب إلى سوريا بعد 17 عامًا من النفي والحكم بالإعدام لمعاداته فرنسا وتجييشه لمعركة ميسلون، مع معاصِرَيه بدر الدين الحسني وعلي الدقر، لم يكن قصاب مؤسسُ “المدرسة الكاملية” المعروفُ بهمَّته المتقدّة بعد عودته من منفاه متقبِّلًا الفرقةَ الحاصلة في صفِّ علماء دمشق ولا سكوتَهم تجاه إجراءات الانتداب الفرنسي على الأراضي السورية.

  وبجهودٍ عملية -كما هو المعهود عنه- حاول الشيخُ الإصلاحي توحيدَ الكلمةِ والجهر بها عن طريق جمعِ المشايخ التقليديين مع “الشباب المتعلمين” تحت اسم “جمعية العلماء”، وكان أحد إنجازات هذه الجمعية هو إقناع الرئيس السوري تاج الدين الحسني بتأسيس أوَّل ثانوية عامة في دمشق، إلا أن إنجاز “جمعية العلماء” الأهم كان قبل ذلك بأربع سنوات؛ أي عام 1938 تحديدًا يومَ نظّمتْ “مؤتمرَ العلماء”، الذي جمع 100 عالم من سوريا ولبنان وفلسطين والعراق.

متجاوزًا الحظ الشخصي وساعيًا لتوحيد التيارات حرص الشيخ المجاهد قصاب أن تشارك كل الأسماء الدينية الدمشقية الفاعلة؛ فقد ضمّ المؤتمر آنذاك في قائمة مشاركيه من المشايخ التقليديين الشيخ البارز علي الدقر مؤسس جمعية الغراء أقوى الجمعيات الإسلامية في دمشق رغم التنافس بينه وبين قصاب، وكذلك ضمت الناشطين الشباب الذين كانوا يستعدون وقتها لتأسيس الفرع السوري لجماعة الإخوان المسلمين وعلى رأسهم مؤسس الجماعة ومراقبها الأول مصطفى السباعي، إضافة إلى مصطفى الزرقا ومحمد الحامد ومعروف الدواليبي، جاء البيان النهائي للمؤتمر متوقعا، فقد أكد على ضرورة تعزيز العلاقات بين العلماء والجمعيات الإسلامية ومنظمات الشباب المتعلم[أ]. في هذا السياق، يؤكد الباحث توماس بيريه أن الذي جمع تلك التيارات في “مؤتمر العلماء” كان الوساطة الثقافية للشيخ قصاب متكئة على الخوف المشترك من نوايا وإجراءات الفرنسيين التي سعت للعلمنة الفجة للدولة والمجتمع.

ومع موت الشيخ المعمر القصاب عام 1954 ماتت معه “جمعية العلماء”، وأدى انسحاب العدو الفرنسي الجامع عام 1946؛ إلى خفوت بريق الأسباب الجاذبة بين كلٍّ من المشيخة والشباب المتعلم، فانطلقوا بتأسيس أذرعهم السياسيةِ المنفصلةِ؛ “رابطة العلماء” للمشيخة، و”الإخوان المسلمين” للشباب المتعلمين حسب وصف بيريه.

ببدلته الأنيقة ذات الثلاث قطع وشاربه الرقيق ومشاركته بالنشر والسياسية ومقالاته الحديثة وأفكاره غير التقليدية كان السباعي -الشاب المتعلم- تمثيلًا للداعية لا الشيخ؛ أي: المفكر والناشط الإسلامي، لا المحافظ التقليدي، في تمايز تنبأ به قصّاب، والذي بدأ يتجلّى بأدوات العمل والمطالب السياسية من ناحية والتصورات من ناحية أخرى، وانعكاسًا لهذ التمايز الفعلي، بدأ المستوى الثاني من العمل والأفكار يظهر عيانًا بتبلور رؤية وطنية على مستوى سوريا كلّها للإخوان مقابل تشظٍ قطريٍ للمنظمات السياسية العلمائية حسب بيريه، وبحث عن الحقوق والإصلاحات السياسية الجوهرية للدولة (الديمقراطية والانتخابات وآلية الحكم على سبيل المثال) لدى الإخوان مقابل مطالب فئوية دينية وأخلاقية وتعليمية (إسلامية الدولة وسماح/ منع الحجاب وتعديلات المناهج وقانون الأحوال الشخصية على سبيل المثال)، المستوى الذي سيسيطر على الحقبة القادمة وما بعدها.

بسحنة إسلامية تقليدية وبهيئة مشيخية يقف أحمد كفتارو مؤسس مجمع أبي النور ومفتي سورية لأكثر من ربع قرن، بصفٍّ واحد في صورة نادرة مع مصطفى السباعي المراقب العام الأول للإخوان السوريين بنظرته الحادة. كان السباعي وكفتارو تجسيدًا حقيقيًّا للتيارات الإسلامية –الإخوان والإسلاميون التقليديون- المسيطرة على المشهد السوري في تلك الفترة، التياران اللذان توازيا ولم يلتقيا بعد مؤتمر جمعية العلماء إلا في 17/ 5/ 1957 يومَ فُتح باب الانتخابات على مقعد في المجلس النيابي السوري، وترشّح “رياض المالكي” ممثلًا عن حزب البعث والتجمع القومي بخلفيتيه الشيوعية العلمانية، الأمر الذي أرهب مشايخ دمشق وجمعهم لاختيار منافسٍ للمالكي، للمرة الأولى – وربما الأخيرة – تنتخب المشيخة ممثلًا عنها من الإخوان “السباعي” لتدعمه في انتخابات سياسية.

آنذاك انقسم الشارع الدمشقي إلى قسمين: إسلامي متماسك بكل تياراته بوجه الشيوعيين الباحثين عن منصب سياسيي. دعم كل مشايخ دمشق من منابرهم مرشحهم ضد حزب البعث باستثناء وحيد شق هذا الإجماع؛ فعلى مقربة من دمشق آنذاك وفي قلبها وبمسجد أبي النور قُرب المنبر وتحديدًا على يمين المحراب كان المشهد معكوسًا بخصومٍ متحالفين، حيث يجلس كفتارو واعظًا وعلى يمينه رياض المالكي مرشح الشيوعيين، نعم؛ اختار كفتارو “رجلُ الدين التقدمي”.شقَّ الصفِّ المشيخي والتشويش على الشارع الدمشقي، مقابل حلفاء أكثر قوة مستقبلًا

 خسر السباعي حينَها الانتخابات في أكبر معركة انتخابية مقابل فوز المالكي وبدء حزب البعث بالسيطرة على زمام الأمور في الدولة، لم يكن خسران السباعي مقتصرًا على المستوى السياسي وحسب بل كان بداية شرخٍ حقيقي لكلمة مشيخة دمشق، شرخ يؤسس له كفتارو الذي وصفه السباعي فيما بعد بـ “شيطان يتظلّم”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.