السودان: المدنيون هم من يدفعون الثمن كالعادة!

السودان: المدنيون هم من يدفعون الثمن كالعادة!

ا أحد يدري بالضبط متى يمكن أن تنتهي المعارك الحالية الجارية في السودان لكن الأكيد أن السكان المدنيين العزل هم الأكثر تضررا وأن الأوضاع الإنسانية هي الأكثر تدهورا أمنيا وغذائيا وطبيا خاصة في العاصمة الخرطوم بملايينها الثمانية.
رغم كل الدعوات بضرورة وقف القتال بين الجيش النظامي وقوات «الدعم السريع» لكن لا مؤشرات حقيقية على وجود استعداد للاستجابة لتلك النداءات أو القبول بأي نوع من الوساطة المحلية أو الأجنبية، فالواضح أن كلا من عبد الفتاح البرهان ومحمد حميدتي يريد الاستئثار بالسلطة ما يدفع بالصراع المسلح بينهما إلى حده الأقصى وهو أن لا

أحد سيتوقف إلا حين يتأكد بأنه قضى على الآخر تماما.
المدنيون هم من يدفع الثمن الباهظ جدا لما يجري من اقتتال بين أجهزة الدولة العسكرية التي أنشأت للدفاع عن الوطن ووحدته واستقراره وعن المواطن وأمنه، وهو يجري بكل ضراوة بمشاركة طائرات ودبابات أجبرت الناس على ملازمة بيوتها في هذه الأيام الأواخر من شهر رمضان المبارك دون التمكن من توفير حاجياتها المختلفة من غذاء ودواء، مع انقطاع للماء والكهرباء، وخروج مستشفيات من الخدمة ومحاصرة طلاب في جامعاتهم وبينهم جرحى، وسط تعذر فتح ممرات آمنة لإجلاء المدنيين ما جعل عدد الضحايا في ارتفاع مستمر، لاسيما أن القصف والأعمال القتالية تتركز بالخصوص في مناطق سكنية وفق ما قاله مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
لم يعرف عن السودانيين، في بلادهم أو خارجها، سوى طيب المعشر وأريحية المزاج والتسامح والقدرة على الحفاظ على أواصر الود بما فيها بين الخصوم السياسيين في أشد معاركهم شراسة، وحتى حين خرجوا ضد نظام البشير أو ضد من حلّوا من بعده وظلوا بشكل أو بآخر امتدادا له، حافظوا على سلميتهم وأثبت الشباب منهم بالخصوص قدرة عجيبة على العطاء والتضحية رغم كل القمع الذي سلط عليهم وأدى بأرواح العديد منهم، لكنهم اليوم نراهم يدفعون ثمن تناحر أهل السلطة فيما بينهم سعيا إلى إزاحة الآخر والقضاء عليه للإمساك المنفرد بكل دواليب الدولة، مع ارتباطات خارجية لهذا وذاك.

اللافت للنظر في كل الحالات السابقة أن كل من آلت إليهم الأمور في هذه الدول لم يراعوا أبدا أي خطوط حمراء في السعي المحموم للبقاء في السلطة بلا شفقة ولا رحمة

في كل الأحداث التي شهدها أكثر من بلد عربي منذ مطلع 2011 كان المدنيون على الدوام هم الضحايا سواء عندما تحركوا بشكل سلمي مطالبين بالحرية، أو حتى بعد ذلك حين ظنوا واهمين أن ثوراتهم انتصرت وأن عهدا جديدا قد بدأ بعد إسقاط من ثاروا ضدهم.

حصل ذلك في بالخصوص في كل من مصر وليبيا واليمن، لكن الأشد قسوة هو بلا جدال ما حصل في تلك الدول حتى بعد التخلص من رأس هرم الدولة كما حدث في مصر بعد الإطاحة بمبارك وليبيا بعد القذافي واليمن بعد علي عبد الله صالح، فيما يبقى النموذج السوري فريدا من نوعه في وحشية القمع منعا لأي تغيير أو حتى إصلاح.
اللافت للنظر في كل الحالات السابقة أن كل من آلت إليهم الأمور في هذه الدول لم

يراعوا أبدا أي خطوط حمراء في السعي المحموم للبقاء في السلطة بلا شفقة ولا رحمة. وفي هذا السياق يمكن بالطبع استحضار ما جرى في مصر من فك دموي لاعتصام ميدان رابعة العدوية الذي ذهب ضحيته المئات من المدنيين بعد الانقلاب العسكري على حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، وما جرى في ليبيا بعد تعثر الانتقال الديمقراطي والدخول في احتراب داخلي وحصار للعاصمة من قبل قوات خليفة حفتر مع استعمال للطائرات وقصف الأحياء السكنية، وما جرى في اليمن بعد انقلاب الحوثيين على العملية السياسية وازدياد الوضع تعفنا بالتدخل العسكري العربي الذي أعقبه، وما جرى في سوريا طوال أشهر من حصار وتجويع لمدن بأكملها قٌصفت بالطيران السوري والروسي والبراميل المتفجرة مع تدخل إيراني، وكله تحت يافطة محاربة جماعات إرهابية، وهو بعض الحق الذي أريد به كل الباطل.
لقد ظلت البلاد العربية «الثقب الأسود الوحيد» في العالم اليوم، وفق تعبير أحد السياسيين التونسيين المعارضين، في أي حديث عن الديمقراطية والحريات وخاصة احترام المواطن وحياته وكرامته وحقوقه. ولهذا لا يوجد بلد في هذا العالم، خارج المنطقة العربية، تجد فيه السلطة غير متحرجة على الإطلاق من قتل مواطنيها وتشريدهم وتجويعهم والتنكيل لا لهدف سوى بقاء من في السلطة في مكانه، وهي في ذلك لا ترى مانعا على الاطلاق، بل ولا يزعجها بالمرة، إن هي مضت من إطلاق النار إلى قصف الدبابات والمدفعيات إلى غارات الطيران مرة واحدة وكأنها حرب حقيقية لصد عدوان أجنبي بينما كل القصة هي داخل الوطن وضد المواطنين ومن أجل الحفاظ على السلطة أو الانقضاض عليها لا غير.

أرواح المواطنين رخيصة جدا عند من يزعمون أنهم حماة الوطن والمواطن، وهذا لا أحد «يبدع» فيه اليوم كما يفعل العرب، حتى «الزول» الطيب الجميل في السودان.

كاتب وإعلامي تونسي محمد كريشان

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.