إشكالية التوازنات البيئية بالمناطق الجافة

بقلم ذ: أحمد اوالطالب محند حاصل على شهادة الدكتوراه في الجغرافيا.

تختلف العناصر المكونة للمنظومات البيئية على سطح الكرة الأرضية باختلاف العوامل المساهمة في تشكلها ومن أبرزها الموقع الجغرافي بالنسبة لخطوط العرض والخصائص المناخية، وعامل القارية، إضافة إلى العامل الطبوغرافي الذي يتمثل في مستوى الارتفاع عن سطح البحر.

إذن فما هي الخصائص الكبرى التي تتميز بها الواحات؟ ما العناصر المكون للمنظومة البيئية الواحية بالمناطق الجافة وشبه الجافة؟ ما مستوى التوازن بين هذه العناصر؟ كيف يساهم الإنسان في اختلال التوازن البيئي بهذه المنظومة البيئية باعتباره عنصرا فاعلا في هذه التركيبة؟

تعتبر الواحات من أهم المناطق الرطبة الاصطناعية التي ساهم الإنسان في نشأتها، تتميز بالتنوع الايكولوجي سواء النباتي أو الحيواني، وتوفر ظروفا مناخية مناسبة للتكاثر والتوالد (microclimat) في إطار سلسلة غذائية متكاملة ومنسجمة، وتحتوي على أنواعا نادرة من الطيور والنباتات التي لها القدرة على العيش في ظروف طبيعية صعبة، الشيء الذي جعل المنظمات الدولية المهتمة بحماية المنظومات البيئية كمنظمة اليونسكو تصنفها سنة 2005 ضمن المناطق الرطبة التي تستجيب لمعايير اتفاقية رامسار كواحات تافيلالت وواحات درعة الوسطى.

تتموقع الواحات بالمغرب مناخيا ضمن الأقاليم الانتقالية بين مناخ متوسطي رطب في الشمال وبين مناخ صحرواي جاف في الجنوب. وجغرافيا تمتد الواحات على طول الشريط الحدودي بين المغرب والجزائر بدءا بواحات فكيك في الشرق ومرورا بواحات حوضي زيز وغريس( الراشيدية، تافيلالت، أرفود، الريصاني…) وصولا إلى واحات حوض درعة الكبير الذي تسترسل على ضفاف أوديته واحات عديدة منها: ورزازات، زاكورة، طاطا، أقا، أسا، تغمرت وكلميم…

وتعد الواحات بالنسبة للمغرب أول نقطة تماس حقيقية له مع الصحراء، وهي الحاجز الأخضر الوقائي الذي يطل من خلاله المغرب على الصحراء الإفريقية الكبرى، لذلك فالواحات تلعب دورا أساسيا في حماية المناطق الداخلية من زحف ظاهرة التصحر وتخفف من سرعة زحف الرمال نحو المجالات الداخلية. وبالتالي يجب تقوية هذه الجبهة لكي تبقى صامدة أمام الظواهر الطبيعية الشاذة التي تتزحزح نحو الشمال خاصة ظاهرة التصحر، ويؤكد علماء المناخ في هذا الصدد أن وتيرة زحف هذه الظاهرة نحو المناطق الشمالية الرطبة  في العالم سريعة جدا، فمثلا يبلغ متوسط سرعة زحف التصحر نحو المناطق الرطبة في السودان حوالي 90 كلم في السنة حسب تقارير منظمة الأمم المتحدة. وتبدو مظاهر التصحر واضحة المعالم في المناطق الوسطى للمغرب كمنطقة سوس، الصويرة، شيشاوة… وعلى ضوء هذه التغيرات يمكن أن ينتقل لقب باب الصحراء الذي يطلق الآن على مدينة كلميم إلى إحدى هذه المدن في المنطقة الشمالية الوسطى للمغرب تعبيرا  مجازيا عن زحف ظاهرة التصحر نحو الشمال.

يتكون النظام البيئي للواحات بالمناطق الجافة على عدة عناصر متكاملة وهي الماء، الأرض، الشمس والإنسان، تتفاعل هذه العناصر فيما بينها لتشكل تلك “الجزيرة الخضراء” أو اللوحة الفنية الجميلة التي رسمها الإنسان في وسط طبيعي جاف يغلب على خصائصه سيمات صحراوية، وتحمل هذه اللوحة في طياتها رسائل عديدة تعبر عن مدى براعة الإنسان في صناعة الحياة والأمل والعيش في بيئية صحراوية لم تكن من قبل مساعدة على الاستقرار وتكوين نواة المجتمع في هذه البيئة، لأنه قبل الاستقرار بها كان يمارس الترحال الدائم والمنتظم بين الشمال والجنوب وبين المرتفعات الجبلية في فصل الصيف والأراضي السهلية في فصل الشتاء بحثا عن ظروف ملائمة للاستقرار .

كما تعبر كذلك الواحات عن مدى قدرة الإنسان الذي يعد الفاعل الأول والمؤثر الأساسي في هذه المنظومة على التأقلم مع الظروف المناخية الصعبة، وابتكر لذلك آليات وتقنيات بسيطة وبدرجة عالية من الدقة والمهارة مستوحاة من محيطه البيئي لمقاومة مشكل ندرة المياه، ويتم توزيع المياه المستخرجة إلى سطح الأرض بين الساكنة أو بين ذوي الحقوق المائية بتقنيات تقليدية (خطارات، عيون، تناست…) مؤطرة بقوانين عرفية سنها الإنسان بشكل جماعي لتجنب الاصطدام والحروب بين أفراد القبيلة الواحدة أو بين عدة قبائل التي تشترك في مصدر مائي واحد.

ما يلاحظ في العقود الأخيرة أن العلاقة القائمة بين العناصر الأساسية المكونة للنظام البيئي للواحات أصبحت تتدهور بشكل مستمر، حيث حدثت اضطرابات في ترابطاتها المتوازنة التي امتدت لقرون عديدة، وبالتالي فقدان التوازن بين هذه العناصر(الماء، الأرض، الإنسان، الشمس) سينتج عنه خللا بنيويا على مستوى التركيبة العامة الضامنة للتوازنات البيئية للواحات. وما يزيد الأمر تعقيدا هو أن الواحات تصنف ضمن المواقع الإيكولوجية الهشة وذات الحساسية الشديدة بالتغيرات التي تحدث على مستوى محيطها الخارجي، سواء تعلق الأمر بالتغيرات التي تحدث في بنية المجتمعات الواحية التقليدية أو بالدينامية السريعة التي تعرفها الطبيعة ومكوناتها… وهناك  اليوم عدة مؤشرات دالة على تدهور العناصر الأساسية المكونة للواحات، الشيء الذي ينذر بمستقبلها القريب هي:

الموارد المائية: أصبحت تتسم بالقلة والندرة بسبب توالي سنوات الجفاف والاستغلال  المفرط والتلوث؛

الأرض: بدأت الأراضي الصالحة للزراعة تعرف تدهورا كبيرا بسبب طول سنوات الجفاف وزحف ظاهرة الترمل، وكذلك عامل التعرية النهرية لاسيما الواحات المحاذية للأودية، إضافة إلى عوامل بشرية كالتوسع العمراني على حساب الأراضي الزراعية والتلوث (المركز الحضري لطاطا نموذجا)؛

الإنسان: أصبح هذا العنصر أكثر عنفا تجاه محيطه البيئي ولم يحسن استغلال الموارد الطبيعية المتاحة (التربة، الماء، الغطاء النباتي…) في المناطق الجافة التي يعيش فيها الشيء الذي يهدد استقراره وحياته الاقتصادية فيها؛

الشمس: تعتبر عنصرا أساسيا في هذه التركيبة فهي المنتجة للطاقة والضوء والحرارة، وهي كذلك المحرك الأساسي للدورة المائية والهوائية على سطح كرة الأرضية، إلا أن حرارتها  في العقود الأخيرة أصبحت ترتفع بشكل كبير وغير طبيعي، بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري، وينتج عن ذلك في المناطق الجافة ازدياد قوة التبخر والنتح النباتي أي تبخر مياه النباتات) ( évaportranspiration مما يرفع من حدة العجز المائي للحصيلة المائية بالواحات، خاصة وأن الماء يعد شرطا أساسيا وحاسما لاستدامة الحياة في المنظومة البيئية الواحية.

إن التفاعل السلبي للإنسان مع باقي العناصر الأساسية المكونة للواحات منذ النصف الثاني من القرن العشرين نتج عنه خللا بنيويا يصعب ضبطه والتحكم فيه، وضرب في العمق التعايش السلمي التاريخي القائم بين الإنسان ومحيطه الطبيعي والتي دام لعدة قرون ماضية.

إن التفكير في تنمية الواحات بالمغرب يجب أن ينطلق أساسا من إعادة التوازن للعناصر الرئيسية التي تأسست عليها الواحات (الأرض، الماء، الإنسان، الشمس)، ويقتضي ذلك بالدرجة الأولى وضع إستراتيجية واضحة ومندمجة تحدد أشكال التدخل لكل الفاعلين على المستوى المحلي، وإدماج التنمية المستدامة والتربية البيئية في المناهج التعليمية، وفي المخططات والبرامج التنموية التي تقدمها الأحزاب السياسية كميثاق تعاقد لها مع المواطنين الذين صوتوا لها في عملية الاقتراع. كما يستوجب تقوية قدرات المجتمع المدني من الجمعيات والتعاونيات على التأقلم مع التغيرات التي تشهدها هذه المنظومات حتى تنخرط بشكل إيجابي في تأطير وتحسيس المواطنين بخطورة التحولات التي تشهدها الواحات في الوقت الراهن في جميع المجالات.

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.