ذ : محمد بادرة/
الثقافة والفنون هما أشبه بعمارة مؤلفة من أبنية فكرية شعورية ولاشعورية أساسها القاعدي بناء تكاملي وظائفي من الثقافة التأملية والثقافة المعاشة. وللثقافة والفنون وسائل وإمكانيات لا حدود لها لإحياء وانتعاش الذات الحضارية للشعوب الاصيلة ففي رحمها تنمو وتتوالد أنماط من الأشكال الثقافية منها ما هو شعبي كامن في الذاكرة الجماعية الشعبية ومنها ما هو نخبوي كامن في الذات الفردية المبدعة، منها ما هو متعالي ومتعالم و منها ما هو متعايش ولا كتابي كالثقافة الشعبية الاصيلة التي ينظر إليها على أنها صورة عن المجتمعات اللا كتابية تعبر عن نفسها بوسائط تعبيرية واشكال رمزية متنوعة ومتعددة تمثل شاهدا زمنيا عن تاريخها الحضاري القديم.
والثقافة الشعبية الامازيغية كباقي أشكال الثقافات الشعبية للشعوب المماثلة هي ذات قيمة حضارية مشكلة من أنساق تعبيرية ودلالية تعبر وتحاكي الواقع والطبيعة بوسائل لسنية وغير لسنية مثل الرقصات الجماعية وطقوس الاحتفالات الدينية وغيرها والوان الرسم والتشكيل على الجسد او الاناء او اللباس او الغطاء وكلها تشكل صورا للتعبير عن الذات الفردية والجماعية ك(الافراح والاقراح_ الحب والكراهية_ الولادة والموت) وتدخل ضمن هذه الصور التعبيرية تلك الاشكال الاحتفالية _ الفرجوية مثل ظاهرة “بوجلود” التي ماتزال حاضرة في واقعنا الاجتماعي والثقافي وهي بالنسبة للإنسان الامازيغي حاجة ثقافية وفنية طبيعية تبرز الفعل والحركة الانسانية تجاه الطبيعة والحياة
ولأهمية هذه الظاهرة في الحياة الثقافية للمجتمع المحلي دأبت بعض المؤسسات الثقافية الوطنية والدولية من اجل حماية هذا الموروث باعتباره شكلا تعبيريا عفويا له القابلية والقدرة على التكيف مع كل زمان ومكان كما انه (حصيلة نتائج التطور التاريخي ).
إشكالية البداية و التسمية
عمليات البحث والتحري العلمي والحفر المعرفي في ركام هذا التراث الانساني الشعبي ما تزال محتشمة حيث ان كل ما نشر عن ظاهرة بوجلود تبدو غير كافية لإماطة اللثام عن اشكالية بداية الظهور والانتشار لا من طرف المؤرخين ولا من طرف غيرهم باستثناء بعض الإشارات القليلة والإضاءات الباهتة التي تظهر هنا وهناك في مؤلفات ومجلات وبحوث جامعية لم تشفي غليل المهتمين والقراء ولم تشبع لهفة المتلذذين لفرجة بوجلود.
كان عدد من هؤلاء الباحثين والكتاب قد تعرضوا لظاهرة “بوجلود” وارجعوا تاريخ ظهور هذا الشكل التعبيري إلى العهد الأول من الحياة الإنسانية نظرا للاحتكاك المباشر للإنسان مع الطبيعة وتعاملوا مع الظاهرة باعتبارها شكلا ثقافيا اوليا تعرفها كل الشعوب والامم القديمة والتي لها صلة بالمعتقدات الوثنية والبعض الاخر يربط الظاهرة ببعض الاعتقادات اليهودية-المغربية وخصوصا ظاهرتي “ايمعشار” و “ايصوابن ” المشهورتين بمنطقي تزنيت وافران الأطلس الصغير.
اما إميل لا ووست E – La oust فأشار ان الظاهرة مرتبطة بطقوس الأفراح عند الامازيغ حيث يقوم الاهالي بإشعال النيران ويرتدي بعضهم ألبسة وجلودا لإضفاء الطابع “الروحي” على الاحتفال. وحين تنقطع الامطار او(تغضب الطبيعة) فانهم يلجؤون الى ذبح الخرفان والماعز والأبقار ويقدمونها قربانا لآلهة الأنهار كما كان يفعل فراعنة مصر الا أن هذا الجانب الوثني افرغ من حمولته البدائية الاولى واصبح يرتبط بعد ذلك بطقوس الفرجة والاحتفال الجماعي ليقترن بموسم النحر وعيد الاضحى ليتزاوج الاحتفال الديني بالطقوس القديمة.
ونجد قراءة اخرى من الذين اجتهدوا “خطا” حين اعتقدوا أن الظاهرة وردت إلينا عن طريق الزنوج الافارقة الذين دخلوا المغرب في عهد المنصور الذهبي مع فن كناوة .
اما تسمية هذه الظاهرة فتختلف من منطقة إلى أخرى غير ان اشهرها هي “بوجلود”(نسبة إلى ذلك الذي يلحف جسده بجلد التيس أو الخروف) وفي منطقة الشاوية تنعت الظاهرة باسم “بولبطاين” وفي الأطلس الصغير تعرف باسم” بيلماون” وفي الريف يرد اسم “داشيخ” وفي تلمسان غرب الجزائر يتداول بكثرة اسم “بوجلود” ويطلق على الرجل الذي يتشح بجلد الأضحية ويرافقه آخر متنكرا في ثياب نسوية يسمى “سونه” يركضان ويرقصان ويطلبان من المضحين حقهما من لحم عيد الأضحى. ويبقى مصطلح “بوجلود” التسمية الأكثر تداولا وانتشارا عن باقي المصطلحات الأخرى.
في نظر الانسان القديم التوحد مع جلد الحيوان هو رمز و إشارة للحب والخصوبة لان “بوجلود” يجمع بين الشكل الحيواني والسلوك البشري الفطري والطبيعي حتى يثير المخيلة الايروسية ويوقظ الرغبة الجنسية- الحيوانية لفظا أو إشارة أو تلميحا. فبالأظلاف أو قوائم الحيوان يستطيع أن يلمس النساء أو الفتيات على كتفهن أو صدورهن او ثديهن او أردافهن حيث مكمن الإثارة راسما لهن حركات وإيماءات غزلية أو جنسية فيها انتهاك للأخلاق والسخرية من القيم الاجتماعية .
ومراسيم الاحتفال وطقوسه تبدأ زوال يوم عيد الأضحى بعد أن يؤدي المصلون صلاة العيد ويشرعون في طقوس الذبح (الشرعية) ثم تجمع الجلود التي تترك على حالها من القذارة وكأن هذه القاذورات حينما تلتصق بالجسد سرعان ما تزول وبذلك تفيد التطهير والتنقية(كما في الاساطير اليونانية).
في الليلة الأولى من يوم العيد أو في زوال اليوم الثاني يبدأ الشبان واليافعين وحتى الكهول بارتداء جلود ما ذبح من اضحيات العيد ويتزينون بباقات من (الحبق) او بأصداف وحلي قديمة او بأشواك القنفذ أو بأطباق معدنية قديمة تتدلى من رؤوسهم وصدورهم ليتسنى لهم قرعها بالأظلاف أو القوائم حتى تحدث ضجيجا فتزيد من تحميسهم وتجلب المزيد من المتفرجين وخصوصا من النساء و الأطفال .
وبعد ذلك ينزل الجميع إلى الساحة العمومية أو “أسايس” لتبدأ طقوس الاحتفال الجماعي وتكتمل الفرجة ركضا وهرولة ومطاردة وضربا وصفيرا وصراخا وضحكا بشكل جماعي منظم ومنتظم ومقبول جماعيا… والكل يشارك في هذا الإخراج الفني الشعبي كما يشارك في الاحتفال فرق واجواق موسيقية وفرق الرقص الجماعي (احواش)
هكذا كانت تقام طقوس الاحتفال خلال ايام عيد الاضحى لغاية تحقيق المتعة والفرجة الجماعيين. وتلك كانت هي الطقوس الاصيلة لاحتفالات بوجلود فيها محاكاة وتسجيل امين للبيئة الامازيغية التي انتجتها وفيها لغة وتعابير وحركات وصور جمالية صادقة صدق الوجدان الجمعي كما ان الذين يشاركون في الاحتفال يمارسون الفن كطقس من طقوس الحياة لا كمهنة ارتزاقية تكسبية. وعليه ليس لاحد الحق ان يحرف اي شيء منه لأنه بذلك يسقط سمة من سمات الشعب او الجماعة.
الا ان الواقع الحالي للظاهرة بدا يتحلل من طابعه الاصيل حتى اصبحت ظاهرة بوجلود ظاهرة فولكلورية اثر منها ظاهرة ثقافية انسانية. ومن علامات الانحراف السلبية ادخال الظاهرة الى مجال الفولكلور حيث الابداع الزائف وحيث استغلال الظاهرة البوجلودية في الدعاية السياحية والتجارية وحتى السياسية !!!
بذلك نسقط في شباك الاثنولوجيا الاستعمارية. هذه الاخيرة ارتبطت نشأة وتطورا بتاريخ الحملات الاستعمارية وتاريخ بحثها عن مسوغات فكرية ايديولوجية لعنصريتها العميقة حيث كان ” علم الاثنولوجيا” يدرس تاريخ وقوانين المجتمعات التي لا تاريخ لها او التي لم تعبر عن نفسها كتابة بل بوسائط اخرى ولذلك ترى “علماء” الاثنولوجيا ينظرون الى الثقافة الشعبية باعتبارها شكلا لاعقلانيا ولا تاريخيا فانتهوا الى نوع من العنصرية الحضارية تحت قناع الدفاع عن الخصوصية الثقافية للشعوب مبرزين مظاهر شخصيتها واستقلالها لكنهم يخفون في الحقيقة احتقارا لها. ومن ابرز المفاهيم التي انتجوها وروجوها للتمييز بين ثقافتهم او “علمهم” وثقافتنا نحن كان مفهوم (الفولكلور)
فلنحذر من استعمال مثل هذا المفهوم (الفولكلور- الكرنفال..) لأنه يحمل منحى عنصريا واحتقاريا للثقافة الشعبية بل يستخدمه كأساس للاستهلاك كمادة اعلامية او تجارية او سياحية او حتى سياسية وليس كمأثور ثقافي انساني حقيقي ؟؟