عرف أبو حيان التوحيدي كعالم موسوعي لقب بفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، وجمع إضافة للفلسفة والأدب علوم البلاغة وعلم الكلام والتصوف وغيره، وعاش أغلب عمره الطويل في بغداد، وتميزت مؤلفاته بتنوعها وغزارة مضمونها وأسلوبه الأدبي البارع الذي اشتمل على وصف للأوضاع العامة في عصره.
لكن التوحيدي الذي ألف “الإمتاع والمؤانسة” و”المقابسات” و”البصائر والذخائر” أحرق كتبه في أواخر عمره ضنّاً بها على من لا يقدرها بعد وفاته واشتكى من تجاهل إبداعاته والفقر وقلة الرزق، وكتب لأحد أصدقائه يبين له أنه ليس أول من أحرق كتبه “فلي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم”.
وذكر التوحيدي في رسالته أيضا نماذج لمن سبقوه، أبرزهم سفيان الثوري الذي مزق كتبه وطيرها في الريح، وأبو عمرو بن العلاء الذي دفنها في باطن الأرض بلا أثر باقي، وداوود الطائي الذي “طرح كتبه في البحر وقال يناجيها “نعم الدليل كنت، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول، وبلاء وخمول”، وأبو سليمان الداراني الذي جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال “والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك”.
وذكر جلال الدين السيوطي في “طبقات اللغويين والنحاة” أن أبا حيان التوحيدي أحرق كتبه لما انقلبت به الأيام ووجد أنها لم تنفعه، فجمعها وأحرقها ولم ينج منها غير ما نقل أو تم نسخه قبل إحراقها، وروى التوحيدي كذلك عن شيخه أبو سعيد السيرافي سيد العلماء أنه قال لولده محمد “قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل، فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار”.
وهكذا تنوعت الأسباب التي دفعت علماء عصور التأليف العربي الذهبية للتخلص من كتبهم بأنفسهم سواء بالحرق أو الغسل أو الدفن أو التقطيع أو الإغراق أو غير ذلك، وتنوعت هذه الدوافع بين الخوف من إساءة توظيفها والفقر وقلة الانتفاع بها أو تقديرها أو نجاحها في القيام بدورها المؤقت أو حتى التنسك والرغبة في خفوت الذكر.
الزهد والوصول
اعتبر بعض الكتاب أن هدف الكتابة الوحيد هو أن تكون جسرا إلى الخالق، فما إن يتحقق الوصول حتى يسعوا لحرق الكتب التي استعانوا بها في الرحلة، وقال أحمد بن الحوّاري وهو من أعلام التصوف في القرن الثالث الهجري، مخاطبا كتبه التي أغرقها “يا عِلم، لم أفعل بك هذا استخفافا، ولكن لما اهتديت بك استغنيت عنك”، وقال أبو سليمان الداراني مخاطبا كتبه “نعم الدليل كنتِ، والاشتغال بالدليل بعد الوصول محال”.
واعتبر بعض العلماء أن عدم إخلاص النية في تأليف الكتب يستدعي التكفير عنه بالتخلص من الكتب، وذكر الذهبي عن بشر الحافي الزاهد المعروف “أنه قيل له ألا تشتهي أن تحدث؟ قال: أنا أشتهي أن أحدَّث. وإذا اشتهيت شيئا تركته”.
وروي عن الفقيه الزاهد داود بن نصير الطائي أنه ترك طلب الفقه وأقبل على العبادة ودفن كتبه، وأوصى الفقيه الكوفي الزاهد سفيان الثوري بإحراق كتبه، وقيل إنه دفن بعضها بنفسه وإنه كان نادما على بعض ما كتب فيها.
وروي عن الشاعر أبي الحسين عاصم العاصمي الكرخي أنه مرض وغسل ديوان شعره في أواخر حياته، ونقل أبو محمد عبد الله اليافعي في مرآة الجنان أن العاصمي كان شاعرا مشهورا ظريفا صاحب ملح ونوادر وأخلاق فاضلة.
ونقل اليافعي كذلك عن أبو بكر السمعاني التميمي أنه غسل ديوان شعره لئلا يؤثر ذلك في قيمة ما كتبه في الفقه الشافعي والحديث.
وروي عن أبي عمرو بن العلاء الذي كان إماما في القراءة وعلوم اللغة أنه تنسك فأمر بحرق كتبه أو تخلص منها.
حفظ العلم بإتلاف الكتب!
وتخلص بعض العلماء من كتبهم خوفا من التلاعب بها من بعدهم، أو دس فيها ما ليس منها، وأشار الخطيب البغدادي في كتابه “تقييد العلم” إلى أن بعض المتقدمين كان إذا حضرته الوفاة أتلف كتبه بنفسه أو أوصى بإتلافها “خوفا من أن تصير إلى من ليس من أهل العلم، فلا يعرف أحكامها، ويحمل جميع ما فيها على ظاهره، وربما زاد فيها ونقص، فيكون ذلك منسوبا إلى كاتبها في الأصل. وهذا كله وما أشبهه قد نقل عن المتقدمين الاحتراس منه”.
وورد عن أبي عمرو الكوفي الذي أسلم في حياة النبي وروى الحديث وتوفي في القرن الأول الهجري أنه دعا بكتبه عند وفاته ومحاها وقال “أخشى أن يليها قوم يضعونها في غير موضعها”، بحسب ابن عبد البر في كتاب “جامع بيان العلم وفضله”.
وأوصى المحدّث شعبة بن الحجاج أن تغسل كتبه بعد وفاته، وذكر ابنه سعد أنه غسلها، وأضاف سعد “كان أبي إذا اجتمعت عنده كتب من الناس أرسلني بها فأدفنها في الطين”.
وعلق شمس الدين الذهبي على كلام سعد بن شعبة في “سير أعلام النبلاء” قائلا “فعل هذا بكتبه من الدفن والغسل والإحراق عدة من الحفاظ، خوفا من أن يظفر بها محدِّث قليل الدين، فيغير فيها، ويزيد فيها، فينسب ذلك إلى الحافظ، أو أن أصوله كان فيها مقاطيع وواهيات ما حدث بها أبدا، وإنما انتخب من أصوله ما رواه وما بقي، فرغب عنه، وما وجدوا لذلك سوى الإعدام”.
ونقل ياقوت الحموي في معجم الأدباء أن النحوي علي بن عيسى الشيرازي الربعي من القرن الرابع الهجري صنف تصانيف كثيرة منها شرح الإيضاح ومختصر الجرمي والبديع في النحو وشرح كتاب سيبويه، لكن الأخير غسله بنفسه بعد أن جادله أحد التجار في مسألة فيه فصب عليه الماء وغسله وجعل يلطم به الحيطان ويقول لا أجعل أولاد البقالين نحاة.
ورغم أن بعض نسخ الكتب التي أتلفها مؤلفوها عمدا قد نجت بفضل وجود نسخ أخرى أو كانت قد انتشرت قبل إتلافها، فإن الخسارة العلمية التي نجمت عن هذا الإتلاف المتعمد قد تقارن بالخسارة التي تسبب بها إحراق السلاطين للكتب والمجلدات لأسباب سياسية.