الصواريخ الإسرائيلية تفقد الـ”مرح” من حياة الطفلة فرح وتحرمها اللعب.. وآلاء ترسم بيد مبتورة

كالكثير من أطفال قطاع غزة، قضت الحرب الدامية والغارات العنيفة التي يشنها جيش الاحتلال، على  الطفلة فرح حودة، باللعب مع قريناتها، ومشاركة توأمها “مرح” في مستقبل حلمتا بأن يكون زاهرا.

حكاية فرح ومرح

هذه الطفلة التي لا تزال ترقد على سرير العلاج في مشفى شهداء الأقصى وسط قطاع غزة، بعد إصابة بالغة تعرضت لها، جراء قصف إسرائيلي استهدف منزل العائلة في منطقة “المغراقة”، جنوب مدينة غزة، تعاني حاليا من جروح وحروق في كلتا يديها، اللتين منذ يوم الحادثة، وضعتا في لفاف طبي، ليساعد في التئام الجروح، ومن بتر في كلتا القدمين.

وتروي الطفلة فرح البالغة من العمر 14 عاما لـ“القدس العربي” مأساتها التي خلفتها الحرب الإسرائيلية، والتي بدأت مع اليوم الأول للحرب، حين شعرت كباقي السكان في القطاع، وبالأخص الأطفال منهم، بالخوف والفزع مع سماع كل صوت انفجار أو غارة، لتعيش مع أسرتها في منزل العائلة، على أمل أن يكون ملاذا لهم من الموت الذي تلقيه الطائرات الإسرائيلية على كافة المناطق.

لكن ذلك الأمل -تقول فرح- انقطع فجأة، حين ألقت الطائرات حممها على المنزل، فحولته إلى ركام في لحظات، وبدأت مع ذلك مأساتها الشخصية ومأساة العائلة بشكل عام.

في تلك اللحظة لم تعد ظروف حياة تلك الأسرة، تشابه أيا من ظروفها السابقة، فتبدل حالها إلى ما هو أسوأ في لحظات، قتل من قتل بفعل الصواريخ، أولهم توأم مرح “فرح”، وأطفال من أبناء عمها، وجرح آخرون كثر، بينهم والدها ووالدتها.

تقول فرح وهي تستذكر الموقف خلال الحديث معها وهي على سرير العلاج لـ “القدس العربي”: “صار كل اشي غبار (الغبار انتشر في المكان)، والمنزل انهدم وصرنا (أصبحنا) تحت الركام”.

وتضيف “أنا تصاوبت (أصبت)، وأختي مرح استشهدت وبنات عمي، وأخوي حملني وأنا متصاوبة وطلعني من البيت إلى المدرسة إلى جنبنا (بجوارنا)”.

هنا تذكرت فرح المشهد الأليم، وذكريات الطفولة مع توأمها التي قضت في الغارة، فتبدل صوتها فجأة، وتحدثت بطبقة صوت أخرى أكثر حزنا، وذرفت من عينيها الدموع.

في ذلك الوقت، حملت فرح بين يدي شقيقها إلى تلك المدرسة المجاورة، كما حمل المصابون الآخرون، خشية من استهداف آخر للمكان، يقضي على من تبقى من السكان، وجرى نقلها وباقي المصابين إلى المدرسة القريبة، بانتظار وصول عربات الإسعاف.

وقد طال وصول تلك العربات إلى تلك المنطقة النائية الواقعة جنوب مدينة غزة، وشمال المنطقة الوسطى في القطاع، بسبب ظروف الحرب، وصعوبة الاتصالات التي تطلب النجدة، وبقيت الطفلة مرح والمصابون ينزفون دما، ويعتصرون الألم من شدة الإصابة في المدرسة، بانتظار الإجلاء إلى المستشفى.

وتقول فرح “كنت بصرخ، وبشوف (أرى) الدم ينزل من رجلي، وكانت يدي من القصف محروقة كمان، وبقيت أصرخ خايفة من الموت”.

كان المشهد في ذلك الوقت قد ازداد سوءا بالنسبة لهذه الطفلة، فالخوف من القادم أصبح واقعا تعيشه، شاهدت الموت بعينيها، وأصيبت بجروح غائرة وخطيرة، وفقدت من فقدت من الأسرة، وحتى العلاج لم يكن الوصول إليه سهلا في ظروف الحرب المعقدة.

ولم يكن باستطاعة شقيقها الذي حملها إلى المدرسة القريبة أن يقدم لهذه الطفلة أي مساعدة، فجروحها الغائرة تفوق حدود كلمات الطمأنة، وبقي ينتظر كغيره في المكان بألم وصول نجدة الإسعاف.

اللعب محكوم بالإعدام

على عجل وضع المصابون في تلك اللحظة مع وصول عربات الإسعاف للمكان بعد وقت من الزمن، وأقلتهم مسرعة إلى مشفى الأقصى، حيث قدمت لهم الإسعافات الأولية في قسم الطوارئ، ونقلت فرح إلى قسم العمليات، فجراحها الغائرة وإصابتها البليغة لا تحتمل التأجيل.

ولم تكن هذه الطفلة تعلم مدى إصابتها في قدميها اللتين تهتكتا بالكامل جراء الغارة وما صاحبها من انفجار قوي، وما تلاها من انهيار كتل المنزل الخرسانية على قاطنيه.

امتدت عملية الطفلة فرح لبعض الوقت، تحت تأثير التخدير، قام خلالها الأطباء بمداواة جروحها جراء الغارة، التي نجم عنها بتر كلتا قدميها، وأخرجت وهي منومة إلى أحد غرف المشفى المليء بالمصابين، حتى في الأروقة والساحات، ووضعت على سرير مرتفع قليلا، وقد وضعت على كلتا يديها المحروقتين وما تبقى من قدميها المبتورتين الضمادات الطبية.

مرت بعض الساعات على خروج فرح من العملية، كان خلالها الأهل يفكرون في كيفية إبلاغها بخبر البتر، حتى استعادت وعيها بزوال مفعول التخدير، لتبدأ بعدها حكاية أكثر ألما.

تقول فرح “بكيت وصرخت في المكان لما عرفت إني رجلي انقصت (قطعت قدماي)”، وهنا توقفت هذه الطفلة عن مداعبة لعبة على شكل عروس بلاستيكية توجد بجوارها بطرف أحد يديها، واستدارت بوجهها قليلا، دون أن تتمكن من إخفاء دموعها.

حاولنا في هذا الوقت طمأنتها، بأنه يمكن مستقبلا تركيب طرف صناعي، لكن هذه الطفلة التي أفهمتها ظروف الحياة الصعبة هنا في غزة ما هو أكبر من سنها، قالت “أنا مش حقدر أكون زي زمان”.

وأضافت وهي تستذكر تلك الأيام التي سبقت الحرب ويوم الحادثة الأليم، “كنت بلعب نط الحبل والحجلة (لعبة شعبية تلعبها الطفلات وتعتمد على الأقدام)، وكنت بجري وبعمل كل إشي، وكنت بلبس جزمة في قدمي والآن لا”.

وتمضي “كيف بدي ألعب الآن، وكيف بدي ألعب بدون مرح (توأمها التي قضت في الغارة)، حاسة مستقبلي كله ضاع”.

ولم تكن توأمها مجرد أخت عادية لفرح، فتشير هذه الطفلة إلى أنهما كانتا يتشاركا في كل شيء في اللعب والملابس والأحلام، وكانتا متعلقتين ببعضهما البعض.

ولا تزال كوابيس ذلك اليوم الدامي حاضرة عند هذه الطفلة، التي قالت “بخاف كل ما اسمع صوت طيارة أو قصف”، ولا تزال تخشى من حادثة أكثر مأساوية، وهي لا تزال ترقد على سرير العلاج.

قصص مأساوية

وفي أروقة المشفى هناك قصص إنسانية أخرى أليمة، سببتها غارات الحرب الإسرائيلية الدامية ضد غزة، فكل مصاب يرقد على سرير العلاج، يحمل في قلبه حكاية ممزوجة بالألم والدم.

ففي ساحة القسم الذي تواجدت فيه فرح، كان هناك طفل آخر لا يتجاوز عمره الأربع سنوات، ينتظر دوره في غرفة العمليات لتركيب “جسر بلاتين” يجمع عظام ساقه المتهتكة بفعل القصف، وليس بعيدا عنه يرقد شاب وقد ركب هذا الجسر في كلتا قدميه، ويحتاج وقتا من الزمن، حتى يستطيع الحركة البطيئة على عكازات طبية.

لكن أكثر الحالات الإنسانية المؤلمة، كانت سيدة شابة، أصيبت بكلتا قدميها، وقد وضعت لها “فرشة” على الأرض، لعدم كفاية أسرة العلاج. هذه السيدة المصابة في كلتا القدمين، وبرفقتها إحدى شقيقاتها لمساعدتها بأغلب الأمور، كانت تحمل بين يديها طفلها لترضعه، فهذه السيدة ترعى ذلك الطفل، وهي بحاجة لمن يرعاها في ذات الوقت.

وحتى في الطريق من ذلك القسم إلى قسم ثان في مبنى آخر في المشفى، كانت قصص المأساة تتجسد في كل خطوة نسيرها، سواء في ساحات المشفى الخارجية الممتلئة بمرافقي المصابين والنازحين، أو في باحات المباني الممتلئة بالمصابين.

لم يدم الوقت طويلا ونحن نسير بصعوبة من الازدحام، حتى وصلنا إلى غرفة بها عدد كبير من الأطفال المصابين، بينهم الطفلة آلاء صبح (7 سنوات)، وهي صاحبة قصة مؤلمة لا تختلف كثيرا عن قصة فرح.

آلاء وحلم الرسم

آلاء التي وجدناها تحمل قلما ملونا وترسم على ورقة بيضاء وضعتها على سرير العلاج، جلبها الأهل على أمل إخراجها من الأجواء الحزينة التي تحيط بها من كل مكان، كانت تتحدث بصعوبة وبصوت خافت، عن مأساة الإصابة التي أفقدتها يدها اليسرى.

سألنا الطفلة آلاء، عما تفعل فأجابت بصوتها “أرسم دار (منزل) لأني بحب الرسم ومشتاقه لبيتنا”، وقد تركت هذه الطفلة هي وعائلتها منزلهم في شمال قطاع غزة، وفرت إلى مناطق وسط القطاع بسبب الحرب.

ولما سئلت آلاء عما حدث معها قالت “انا كان الي إيد، (وقد رفعت يدها المبتورة قليلا)، والقصف خلاها تنقص”.

ويقول أحد أعمامها الذي كان بجوارها هو وعدد من أفراد العائلة، إنهم تركوا منزلهم الواقع في جباليا شمال القطاع، بعد الحرب، ونزحوا قسرا إلى وسط القطاع.

ويشير إلى أنه قبل النزوح تعرض مكان قريب من المنزل لقصف جوي إسرائيلي، أصيبت على إثره آلاء بجروح في يدها اليسرى، لافتا إلى أنها أصيبت بعد النزوح لوسط القطاع في ذات اليد، ما أدى إلى بترها هذه المرة.

والجدير ذكره أن نسب الأطفال الذين قضوا أو أصيبوا جراء الحرب الإسرائيلية الدامية، تعد الأعلى من بين باقي الفئات، ومن بين أكثر من 18 ألف شهيد، هناك أكثر من أربعة آلاف طفل بينهم رضع، قضوا في الحرب.

ويمثل الأطفال المصابون ما نسبته نصف عدد المصابين الذين يفوق عددهم الـ 50 ألف مصاب، ومن بينهم أطفال أصيبوا بجروح بالغة الخطورة، وآخرون كثر تعرضوا لبتر في الأطراف العلوية والسفلية.

يمثل الأطفال المصابون ما نسبته نصف عدد المصابين الذين يفوق عددهم الـ 50 ألف مصاب، ومن بينهم أطفال أصيبوا بجروح بالغة الخطورة

ويقول الدكتور خليل الدقران، الناطق باسم مشفى الأقصى لـ “القدس العربي”، إن إصابات خطيرة وكثيرة لأطفال وصلت منذ بدايات الحرب إلى المشفى كباقي مشافي القطاع، وإنه بسبب كثرة الأعداد وامتلاء الأسرة، توضع الإصابات على الأرض وفي الساحات.

ويصف الدقران الوضع الصحي في قطاع غزة بـ “الكارثي”، ويشير إلى أن المنظومة الصحية في انهيار خطير، خاصة مع وجود خطر آخر غير خطر الإصابات بالغارات التي تشنها دولة الاحتلال، وهو انتشار الأمراض المعدية بكثرة في هذه الأوقات.

لا أطراف صناعية

سألت “القدس العربي” الدكتور الدقران، عن عدد الأطفال المصابين ومن تعرضوا لحالات بتر، فأشار إلى أن 50% من المصابين من الأطفال، وأن حالات كثيرة خطيرة من بينهم من يصل مصابا بمنطقة الرأس أو الصدر، وأن كثيرا منهم أيضا تعرضوا لحالات بتر.

وحتى اللحظة ومن كثرة الإصابات والضغط في العمل، لم يجر تحديد أرقام ونسب من تعرضوا للبتر، لكن الناطق باسم المشفى يقول إن الغارات الجوية الإسرائيلية والصواريخ المستخدمة تحدث جروحا خطيرة، لافتا إلى أن هناك ضحايا من الأطفال وصلوا مبتوري الرؤوس، ويضيف “قبل يومين وقعت مجزرة ووصل إلى المشفى 37 طفلا مصابا مرة واحدة”.

ويشير الدكتور الدقران إلى أن المشفى كباقي مشافي القطاع والمنظومة الصحية بشكل عام، يعاني من نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، لافتا إلى أن 70% من مشافي قطاع غزة خرجت عن الخدمة بسبب الحرب.

وسألت “القدس العربي” الدكتور الدقران، إن كانت هناك خدمة تركيب أطراف صناعية لمن بترت أطرافهم في المشفى، فأشار إلى أن الأمر غير متوفر حتى في باقي المشافي العاملة في القطاع حاليا، لافتا إلى أن المشفى المختص الوحيد الذي يقدم هذه الخدمة بات خارج الخدمة.

ويوضح هذا الطبيب أن أيا من المصابين الذين تعرضوا لحالات بتر منذ بداية الحرب، لم يجر تركيب أي طرف له حتى اللحظة.

ويعد مشفى حمد شمال غزة، الذي أصبح خارج الخدمة منذ بدايات الحرب، هو المشفى الوحيد المختص بالأطراف الصناعية في غزة، وهذا المشفى تعرض لأضرار جراء الغارات والهجمات الإسرائيلية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.