“الزيتونة”.. صرح ثقافي عربي بجنيف ينشد الحوار ويكافح الوصم

جنيف – في مكتبه المطل على شارع فريبورغ، بقلب مدينة جنيف، يضع اللمسات الأخيرة على برنامج الرواق العربي في معرض الكتاب المقبل، بينما يتردد صوت سيدة سويسرية تتهجى بصعوبة أمام أستاذتها حروفا ثم كلمات ثم جملا من لغة الضاد.

محاطا برصيد متنوع من الكتب في الأدب والدين والفكر السياسي، أمضى ألان بيطار أربعة عقود من عمره بهاجس التعريف بالثقافة العربية وإعلاء جسور التلاقح الحضاري بين الغرب وفضاء ثقافي يلاحقه الوصم والاختزال.

 

 

 

 

 

هنا مكتبة الزيتونة، وهنا معهد الثقافات العربية والمتوسطية، واجهتان لمشروع ثقافي واحد يتيح لأبناء الجيل الثالث من المهاجرين مجالا لاستكشاف جذورهم بقدر ما يراهن على الحوار والتبادل مع السويسريين والأوروبيين في سياق مشحون تخيم عليه الصور النمطية ورهاب الآخر المشبوه بخطيئة الإرهاب والتخلف إلى أن تثبت براءته.

 

    لبناني-سوري الأصل مصري المولد، سوداني الإقامة، إلى أن حل بسويسرا في السادسة من عمره. درس وعاش وشب أوروبي الهوى إلى حين هزته صدمة الهوية وهو على أعتاب عقده الثاني، حين رفضت السلطات منحه جوازا سويسريا، على خلفيات نشاطه الطلابي أيام فورة اليسار والشباب الحالم.

بجهل كلي بالعربية التي لم يكن يعرف منها سوى كلمات معدودات في مقام المجاملة: سلام، شكرا…، ينطلق ألان في رحلة استعادة الذات وترميم الصلة بالرحم التي أنجبته.

 

قادته رحلته البوهيمية إلى أقطار عديدة من المغرب إلى الشام مرورا بمصر، ومنها اشتعل حماس الانكباب على الثقافة العربية بمختلف تعبيراتها، واستعادة اللغة في المخيمات الفلسطينية، هو الذي لم يكن قد سمع من قبل عن أم كلثوم وفيروز.

 

   من سؤال الهوية ينطلق ألان بيطار في المغامرة الكبرى التي استغرقت نشاطه العام. بمعية جمع من رفاقه الطلاب، خصوصا من ذوي الأصول العربية، يؤسس مكتبة “الزيتونة” كمحراب للثقافة العربية في جنيف.

 

حول هدف نبيل من هذا النوع، يمكن تجسيد قيم التنوع والاختلاف التي تفتح أفقا أبعد لهذه الثقافة. هو العربي المسيحي يذكر بامتنان فضل إمام بمسجد جنيف، ساهم في تشكيل الرصيد الكتبي للفضاء، حتى أنه كان يحرص على اقتناء نسختين من كل كتاب، يضع واحدة في روق المؤسسة الإسلامية التي يرأسها ويحمل الأخرى إلى مكتبة الزيتونة. يلتفت إلى العناوين المتراصة قائلا بتأثر: “كل هذه الكتب كانت غريبة عني وكان يمكن أن تظل كذلك”.

 

  تاريخ محتويات المكتبة يعكس حسب ألان تطور المفاهيم والتيارات الفكرية والسياسية والثقافية بالعالم العربي الإسلامي. من هيمنة الكتب الحمراء ذات النفس القومي اليساري، ستستقبل الرفوف في مرحلة لاحقة تدفقات متنامية من الكتب الدينية وكتب الإسلام السياسي.

إنه مد بدا واضحا بعد هجمات 11 شتنبر حيث لمس ألان عودة محمومة إلى تعبيرات الثقافة الأصلية وحماسا لاستعادة الذات في مواجهة حملات التنميط والاختزال والإسلاموفوبيا، خصوصا لدى أبناء الجيل الثالث من المهاجرين.

 

   عكس تطور خدمات المكتبة أيضا عمق التحولات على مستوى وسائط الاستهلاك الثقافي. كانت تزخر برصيد هائل من نسخ الفيديو للأفلام العربية، وبحافظة موسيقية بلغت 4300 أسطوانة وقرص لتسجيلات يعود أقدمها إلى 1880. اليوم، فقد هذا الأرشيف معناه، لأن الأنترنيت والفضائيات غير كل شيء، يقول ألان مستسلما لقدر التكنولوجيا.

 

  دخلت المكتبة سنة 2014 في مرحلة إفلاس تجاري، على غرار معظم المكتبات العربية في العواصم الأوربية الكبرى، مثل باريس ولندن، التي أغلقت بابها. لكن كان صعبا على هذا الرجل السبعيني أن يسدل الستار على 35 سنة من عمره بين هذه الجدران المشبعة برائحة الورق والمضمخة بروح الشرق. كان الحل تأسيس جمعية “معهد الثقافات العربية والمتوسطية” بمساعدة عمدة جنيف السابق.

 

أمكن أن تستمر المكتبة بتنظيم مختلف، في إطار جمعية ولجنة مسيرة برئاسة الدبلوماسي فرانسوا باراس، سفير سويسرا السابق بلبنان.

    أصبح التركيز على الأنشطة الثقافية من ندوات وعروض بهدف إشاعة صور إيجابية عن الثقافة العربية دون عقدة الحديث عن الظواهر السلبية. يعتمد هذا الصرح الثقافي العربي اليوم على البلدية والمؤسسات الراعية وأبناك تقدم عطاياها بناء على برنامج وتقارير مالية دقيقة. الغصة في حلق ألان غياب دعم عربي كان بإمكانه أن يفتح أفقا واسعا لتطوير نشاط جماعي يخدم الثقافة العربية.

 

   في السنوات الأخيرة، يلمس الرجل إقبالا على اكتشاف مختلف تعبيرات الثقافة العربية. تم تأسيس ناد سينمائي وناد للكتاب العربي بالفرنسية وآخر بالعربية بمبادرة من طلاب من جامعة جنيف. قائمة مراسلات المعهد توسعت، ومتابعو فعاليات المعهد على الفايسبوك يعدون بالآلاف.

 

   يقر ألان، الذي كان نهاية الثمانينات وراء إنشاء النسخة العربية لصحيفة “لوموند ديبلوماتيك” واسعة الانتشار، بالصعوبات على مستوى الحوار الثقافي العربي الأوروبي، وبالطريق الطويل على مستوى تغيير الصور النمطية في ظل نمو تيار أوروبي يستخدم الدين والإرهاب ليربطهما بالهجرة، حرفته صب الزيت على النار. لذلك “نحن مطالبون بإيجاد قنوات دائمة لتصريف صور عكسية”، يقول السويسري العربي الذي يحمل وسام شرف من مدينة جنيف.

 

    بخصوص الهجرة العربية إلى سويسرا، يرى أنه لا يمكن الحديث عن إفراز نخبة مثقفة حاملة لمشروع ثقافي عربي. الموجات الأولى كانت لأفراد طبقات راقية من الشرق العربي. الهجرة العمالية جاءت لاحقا. بدأت أساسا من إيطاليا وإسبانيا والبرتغال ثم الأتراك قبل الهجرات العربية التي حلت متأخرة وفردية في الغالب، فلم يتشكل تجمع عربي مسلم منسجم واع بوجوده وبمصالحه الجماعية.

 

   في المقابل، يرى أن العالم العربي لا يشكل أولوية في السياسة الخارجية السويسرية مقارنة مع اهتمامها بإفريقيا مثلا. والثقافة تجسد ذلك، فمعرض جنيف مثلا يتضمن رواقا هاما للثقافة الإفريقية مدعوما من الخارجية السويسرية، وهو ما لا ينطبق على الجناح العربي. العالم العربي في الذهنية السويسرية وفي الإعلام “بطاقة سياحية” متخيلة. حضور الثقافة العربية الجادة باهت في الإعلام المحلي، إنه حضور مرتبط غالبا بحرارة الحدث الآن.

 

    الطريق شاق وطويل في نظرة ألان بيطار لمستقبل الإشعاع الثقافي العربي في سويسرا ولآفاق حوار ثقافي عربي أوروبي، لكن الذي يواصل السير منذ أربعة عقود غير مستعد لتسليم مفتاح “الزيتونة” في منتصف المهمة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.