الجنرال مظلوم يتذكر الجنرال مصطفى البارزاني

أثناء الاحتفال الرسمي بنهاية تنظيم داعش الإرهابي، الذي جرى في حقل العُمر النفطي بعد يومين من نهاية معركة الباغوز، كان الجنرال مظلوم كوباني، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، يجلس بثقة إلى جانب السفير وليام روباك، مستشار قوات التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش في سوريا، وهو الشخص المخول من قِبل دولته بأن يحدد ويدير استراتيجية الولايات المتحدة، وبالتالي قوى حلف الناتو في الداخل السوري. أشاد السفير روباك في كلمته بالجنرال كوباني ومقاتليه، مشددا على الشراكة المتينة بين الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية. من بعده انهالت البرقيات على الجنرال كوباني، من مختلف قادة أركان دول التحالف الدولي، متوافقة كلها على ما شدد عليه السفير روباك.

في طريق العودة من حقل العُمر النفطي، الذي يُعتبر أكثر منابع الاقتصاد السوري حيوية، كان الجنرال كوباني يتطلع من نافذة سيارته المصفحة إلى السهوب الخضراء الشاسعة التي صارت تحت السيطرة المطلقة لقواته، التي تُقدر مساحتها بثلث مساحة سوريا، وتختزن ثلاثة أرباع ثروات سوريا النفطية والزراعية والمائية، وفي موقع جغرافي بالغ الحساسية في المثلث السوري العراقي التركي.

في السبعينيات أعلن الجنرال البارزاني أن الأكراد قد تعرضوا لمؤامرة إقليمية ودولية

كانت النشوة تأخذ الجنرال وهو يقارن الأحوال الراهنة بما كانت عليه قبل خمسة أعوام، حينما كان مع قواته محاصرا في آخر حيّ من مدينة كوباني. اليوم، الجنرال وقواته شركاء معتبرين لأقوى جيوش العالم، وباتوا جزءا من التوازنات الإقليمية، بل حتى صاروا مكان تقدير خاص من وسائل الإعلام والثقافة ومؤسسات البحث العالمية.

في مكان ما من ذلك الطريق الطويل، يفتح الجنرال كوباني شباك عربته المدرعة، لينتشي برائحة ربيع هذا العام، الذي يبدو عامرا؛ فالأمطار السنوية استثنائية للغاية هذا الربيع. رائحة الأرض ذكرته بما كانت عليه روائح جبال قنديل قبل عقود، حينما كان الجنرال مقاتلا في صفوف حزب العمال الكردستاني.

يتذكر الجنرال تلك السنوات، ومعها حكايات القرويين الجبليين الأكراد العراقيين في تلك المناطق، التي ما كانت تنتهي قط، بالذات منها حكايات البطولة والفروسية، المتخمة بروح المرارة والإحساس العميق بالخُسران والخديعة، تلك التي كان القائد التاريخي لحركتهم التحررية القومية الجنرال الملا مصطفى البارزاني يُشكل أبرز وأعلى استعاراتها.

في ذلك الوقت، حينما كان الجنرال كوباني مقاتلا يافعا في جبال قنديل، كانت سنوات قليلة قد مرت على مأساة كرد العراق الأكثر مرارة عام 1975، حينما حولتهم التوازنات الإقليمية والتفاهمات الدولية إلى كبش فداء، قُدموا عربونا لتوافق صدام حسين مع شاه إيران.

يعرف الجنرال من مرويات أهله الأولين أيام اليفاعة، طوال السبعينيات، ومن حكايات القرويين الأكراد العراقيين في الثمانينيات فيما بعد، كيف أن الجنرال مصطفى بارزاني قاد انتفاضة أكراد العراق طوال عقد الستينيات، ومر بظروف مريرة وحروب قاسية في عهود الرؤساء القوميين العرب الثلاث، عبد الكريم قاسم والأخوين عبد السلام وعبد الرحمن عارف، إلى أن تمكن من فرض وثيقة/بيان الحادي عشر من شهر آذار/مارس عام 1970 على النظام البعثي، الذي كان في أوائل عهد انقلابه على الرئيس عبد الرحمن عارف.

وقتها، كانت النشوة تأخذ الجنرال مصطفى بارزاني بذلك البيان التوافقي، فقد توجت “نضالا” طويلا للحركة القومية التحررية الكردية التي دامت لعقد كامل، كان قبلها الجنرال البارزاني لاجئا سياسيا في الاتحاد السوفييتي.

كذلك فإنها كانت تعني فتح شبكة من العلاقات الإقليمية والدولية للبارزاني وحركته القومية. فهي دفعت المنشقين عن حزبه المركزي في الحركة القومية لأن يعودوا ويعقدوا مصالحات داخلية. كذلك فإنها أسست لعلاقة إقليمية متينة بين الجنرال البارزاني وشاه إيران، الذي كان يُلقب نفسه بـ”شاهنشاه”، أي ملك الملوك.

بالتقادم، ومن نفس الموقع، كان البارزاني يتابع التحولات التي كانت تجري لصالحه، ويطمأن نفسه بأنه والأكراد العراقيين صاروا رقما ومساحة ودورا لا يمكن الاستغناء عنهم. فالعراق أصدر قانون تأميم شركات النفط العاملة في العراق عام 1972، وفي نفس العام صك العراق اتفاقية صداقة وتعاون مع الاتحاد السوفييتي، كذلك فإن النظام السياسي العراقي كان يُجهز الأرضية لتشكيل الجبهة الوطنية التقدمية، التي كانت تحالفا سياسيا بين البعثيين والشيوعيين، لأول مرة في تاريخ العراق الحديث.

كان الجنرال البارزاني يحسب كل ذلك، ليطمئن نفسه بمبدأ التوازن في سنوات الحرب الباردة: فطالما أن صدام حسين والنظام البعثي يسيرون بكل هذا الإقدام نحو الحلف السوفييتي، فالأكيد أن الولايات المتحدة والقوى المناهضة للاتحاد السوفييتي في الشرق الأوسط سيعتبرون أكراد العراق وحركتهم التحررية ومقاتلي البيشمركة شركاء موضوعيين لا يُستغنى عنهم، خصوصا وأنهم يزيدون عددا وحيوية عن الجيش العراقي نفسه، فيما لو حُيّد سلاح الطيران.

لم تمض أوقات طويلة حتى تبدل كل شيء بشكل دراماتيكي. فالنظام العراقي حول اتفاقيته مع السوفييت إلى مجرد أداة للحصول على كافة أنواع الأسلحة، وبأكبر كمية ممكنة، ولأثبات حُسن أدائه، فإن صدام حسين بدأ حملاته القمعية ضد تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي دون هوادة، ومن بعيد وقريب كان يتواصل مع دول منظومة الأوبك النفطية، وعلى رأسها الجزائر القومية، التي تمكنت في المحصلة من اجتراح توافق سياسي استراتيجي بين صدام حسين وشاه إيران، يحصل بموجبه الشاه على ما كان يُطالب به من شط العرب، مقابل تخليه عن دعم المقاتلين الأكراد.

تخلى النظام العراقي عن كل الالتزامات والوعود التي قطعها في بيان الـ11 من آذار/مارس أثناء بدء المفاوضات التنفيذية بشأنها عام 1974، ولم يلتق الأكراد أية مساندة ممن كانوا يعتقدون بأنهم حلفائهم الدوليين، بينما كانت فرق جيش شاه إيران تسحب ما كانت توفره للأكراد العراقيين من معدات وشبكات مراقبة للطيران.

يتذكر الجنرال كوباني تجربة الجنرال البرزاني ثم يغرق في قلق لا يندمل

أعلن الجنرال البارزاني وقف الكفاح المسلح بعد فشل مفاوضاته مع الحكومة المركزية، مغادرا إلى إيران، معلنا بأن الأكراد قد تعرضوا لمؤامرة إقليمية ودولية، حيث نعته الصحافي محمد حسنين هيكل حينما التقاه في منفاه الإيراني بـ”الصقر الجريح”.

يتذكر الجنرال كوباني كل ذلك، الذي هو جزء تأسيسي مع الذاكرة الجمعية لكل كردي، ويقارنه مع حاله وحال عشرات الآلاف من مقاتليه، ثم يغرق في قلق لا يندمل، ويطلب من السائق أن يرفع صوت الأغنية الكردية التي يسمعها، التي هي مثل كل الأغاني الكردية القديمة والحديثة، تروي حكاية بطل كردي فعل كل شيء في سبيل الوصول إلى محبوبته، لكنه، ولغير صدفة، يلاقي حتفه قبل أن يطالها، عبر مؤامرة محاكة من كل الحلفاء والأعداء.

يُغلق الجنرال شباك عربته المدرعة، ويتطلع إلى البعيد نحو السهوب، التي كانت خضراء بشكل استثنائي هذا العام، بسبب الأمطار الوفيرة التي ما شهدت المنطقة من مثلها من قبل، لكن دون أي أمل أن تكون كذلك في العام القادم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.