بقلم الأستاذ حسن الرّحيبي
كانت تداهمنا مثل هذه الأمطار المُخيفَة والمتوالية بدون انقطاع ونحن نرعىٰ المَواشي بربوع امّ دنان الشّاسعة ، أو بضاية الجّبلي خلال سنوات الستّينات ، حيث لاَ حنين لَا رحيم . حين تتلبّد السّماء انطلاقاً من الغرب ، وتختفي كُدىٰ الطّالوع وهضاب السّاحل المترامية . بفعل زخّات أمطار الشّتاء القاسية .. كما تختفي رَوابي الحَصية وجَرفة القاق المخضرّة والمُزدهرة .. وكُدية سيدي احمد برّحّال التي تلوح في الأفق البعيد … ويقصف البَرق والرّعد بشكل مُخيف ومُرعب ..
نَختبيء تحت أبقارنا الهزيلَة الضّامرَة ، أو خلفَ ظهارة جمل أو حلاسة حمار .. وقد أخذ منّا الجُوع وتفاهة الملابس أيّما مأخذ . بعد لجوئنا لشوي ما لم ينبت من فول السّلايعي ل”عَمْي الجّوع” وإسكات غرغَرة البطون .. تشتدّ الأمطار فتتوقف المَواشي عن الرّعي مسلّمةً أمرها إلى اللّه ، بينما نأخذ نحن في التّصايح مُعتقدين بأن بهذا الأسلوب الغوغائي المُزعج سنحوّل مسارَها لأننا عزّل لا نملك وسائل لوقاية أجسَامنا الهزيلة ، مردّدين لازمتنا الجَاهزة دائماً :
دَايْزَة دايزة !
نَعطيك بݣرة مݣّايْزَة !
أو كما كان يقول الطّاوس لإزعاج منافسه في لعب اللّبي les billes ودفعه لإخطاء الهدَف :
اخرُݣ ودوزْ !
نعطيك اللّوز !
لكن بدون جدوىٰ بعد ما كنا نشذو محتفلين بأولىٰ قطرات الغيث خلال الخريف ، مستعملين عصيّ الرّعي لشقّ خطوط متوازية ، مقلّدين آباءنا عندما يشرعون في الحرث وهم يوزّعون “خبزة المحراث” مردّدين القول السّائر :
باسم اللّه
وتوكّلنا على اللّه
آ الفلّاحَة آلدّراوش
آللّي كالشي في سَبيل اللّه..
آخرُج علّم خطّك ..
ثم نبدأ بالترحيب بالشّتاء جماعةً : طفلات وأطفال سعداء أبرياء نجوب السّاحة متقافزين فرحين ونحن نصيح :
آلشّتا تا تا تا !
آوليدات الحرّاثة !
آصُبّي صُبّي صُبّي !
را وليداتك في قُبّي !
را امّك تجري وتطّيح !
را ابّاك ادّاه الرّيح ..
نعود في المساء وقد ازرورقت وجوهنا وأرجلنا الحَافية من شدّة البرد والصّقيع .. واخضرّت جوانب أفواهنا وشفاهنا من فرط استهلاكنا لأعشاب التّبش والݣيز والݣرنينة والعشلوج وأيضاً جذور تلّغودة والمغيزلة شديدة الحَلاوة .. نغسل أرجلنا بالضاية أو بإحدى البرَك القريبة . ونلجأ للكانون نتسخن وندخن بعض أعواد القشبيلة مقلّدين بابا الاقرع أو الجّيلالي ولد محجوبة أو ابّا الجّيلاي ولد قدّور ، ممّا يكلّفنا “طرشة قاسية ” من امّي حليمة :
هاذاك الشّي اللّي بقىٰ لَكْ آبو الشّلاقم عَا شريب طابا !
ثم تسترسل في طلب الحدّ من غزارة الأمطار :
يا ربّي تعطيها لينا على ݣدّ النّفع !
ناري آمّيمتي آخّتي لاݣية عاللّيل !
آسيري لآريري !
آسيري لآريري ..
تتواصل الأمطار وتتأزّم الشّوْطة .. نحرق أسمالنا وأثوابنا البالية المحشوّة بالوسائد الثّقيلة المُهترئة عندما تبتلّ أكوام الهايشر والمازير ونفتقد كل وسائل الطّبخ .. لكن ما تابعها غير الخَير .. كما تقول أمّي !
يصبح العشاء المكون من سميدة الذّرة صبيبَة جاهزاً .. نلتهمه بسرعة ثم نفتح دفاترنا متذكرين واجبات الفرنسية والحساب ، قبل أن تداهمتا امّي حليمها بأمرها الصّارم :
” نوضوا ترݣدوا ليكم على روسكم خللّيوا لينا القُرطة تبقاوا تلاَيلهوا علينا بحال مّيسىٰ اللّي يطلب حذا العلامَة ! (بمفترق طرق الوليدية ولخميس قرب دار ولد محراشَة حالياً)
رحم اللّه الجَميع
واللّه يرحمنا بشي هْرير ديال المَا كما كان يردّد أبي عندمَا يطول انحباس المطر ..