“بابا ماركس” عمل درامي طويل للمبدعة المتألقة المخرجة “مريم آيت بلحسين”

تقرير محمد حميمداني

 

استمرارا على خطى مسيرتها الموفقة و الرزينة، و ضمن رزنامة متقدة بالإبداع النابع من هوية الأصل الغدير الذي يغدي كيان الإنسان المبدع العصامي المحتضن للأرض و للإنسان و للقيم الرفيعة، الحاضن لموروث جامع مشتعل بلغة الحياة، تطل الفنانة المبدعة و المخرجة و المنتجة العصامية ابنة مراكش على جمهورها من خلال فيلم آثرت فيه لغة التحدي و التمرد كما هي عادتها، من خلال غوصها في متاهة من الصعوبة اختراقها إبداعيا من منظور الصعوبات الواقعية المرتبطة بالنص “بابا ماركس”، و بإدارة النص عبر قالب درامي مناسب نابض بقيم المستقبل والذي يعج بالحياة حاملا رياح الكرامة للساكنين في سيارة نقل الأموات.

بالفعل فإن “بابا ماركس” هو شحنة متقدة بالنبض و الحياة المنفتحة على قيم التمرد ضمن سياق الوحدة بين الألم و الحاجة التي تبقيه أصلا طبيعيا، و القدرة على تلبية الحاجيات الروحية و الفكرية و الغدائية طبعا الموزعة عبر سيارة نقل الأموات التي تنقل المتلقي من واقع الصدمة إلى واقعة صدمة أخرى تحمل مدلول الانفجار و الانفراج بين هويتين، هوية “أدم سميث” و حمولته الأخلاقية لحل قيم الذل و الجوع و الفقر، و واقعية تعاطي “الشيخ ماركس” مع الإنسان و قضاياه، في تجربة تذكرنا بالكاتب الفلسطيني الكبير الراحل “غسان كنفاني” في روايته “رجال تحت الشمس” .

 

بابا ماركس” فيلم من بطولة كل من “محمد الشوبي”، “محمد بلخدير”، “كلثوم إنازي”، “عبير التازي”، “آدم زواق” و آخرون ، هو رحلة تنقل “البوشتاوي”، ذا التاريخ النضالي اليساري المتمرد و الحالم بمجتمع اشتراكي خال من الطبقات، تسوده قيم السلم و الحب و العيش المشترك و سلطة الإنسان، التي تحضر من خلال الكرامة و وحدة الكينونة و الهوية، تلك الأماني التي تشبع بها و شربها كأس لبن من ثدي أمه الاشتراكية و من واقعية أب معلم مكنه من أدوات الفهم و البناء و هو العامل في مصنع لصنع السيارات.

تتوقف الأحلام و تحضر الواقعية مع تفجر الحدث الدرامي بعد حادثة شغل تعرض لها ليصبح بقوة الاستغلال غير مرغوب فيه، بما أنه لا يمكنه إنتاج فائض القيمة، للغرب الرأسمالي، فيقرر العودة إلى وطنه “المغرب”، و استثمار ما تم تقديمه له من فتات فائض القيمة بعد تعرضه للحادثة المأساوية في إنشاء سوق للمتلاشيات من هياكل السيارات “لافيراي”، عارضا أجزاءها للبيع.     

 

 

ليقرر الرجوع إلى المغرب، واستثمار تعويض الحادثة في انشاء فضاء للمتلاشيات (لافيراي) لهياكل السيارات وبيع أجزائها الموروث أصلا عن أخيه المتوفي ، ليقر في رحلة البحث عن القيمة الوجودية للفكر في الكيان و الحياة المشعة بقيم الظلم و الحرمان و التشرد و الضياع ، جعل المكان في خدمة الإنسان المحتاج للمسة دفئ و عطف و حنان و إنسانية مفقودة في سوق التغول الوحشي القاتل للبسمة كما للحياة بقوة السخرة و مفردات سطوة الرأس و المال.

 

توحد “البوشتاوي” مع المكان / الفضاء و جعله ملجأ للمهمشين و المهاجرين الأفارقة و السوريين العابرين، محاولا من خلال الحلم تحقيق مجتمع اشتراكي على طريقة “آدم سميث” و “فوريه” ….. ، حالما بتحقيق الغائب في مضمار السوق التي أقعدته بعد أن أصابه العجز عن إنتاج فائض الاستغلال، حالما بتميكن كل هاته المتلاشيات التي لم تحمل من الحياة سوى الأسماء، محاولا ضمان حياة كريمة لهم، و مساواة و شراكة في كل شيء في سوق متلاشيات الهياكل الحديدية كما الهياكل العظمية في توحد مع لغة الضياع بقوة الاستلاب و الاستغلال و الاسترقاق من أجل رغيف خبز حاف يرسم مسافة بين الخبز و الكرامة من خلال ذات الإنسان، جاعلا الرغيف فرصة لتمريغ الكرامة، رافضا قبول الكرامة مع لقمة عيش لا تساوي إلا الانبطاح لذل الحصول عليها ليكون الحكم “السيزيفي” هو العذاب الأبدي في رحلة سيزيف مع الآلهة و جبل أولمب، و رحلة هاته الهياكل مع قوة المال و السلطة و الأخلاق المغذية لهاته التلازمية المفروضة قسرا بقوة المؤسسات .

 

تتطور الاحداث و معها المشاهد مع استقدام هيكل سيارة إلى المكان، كانت قد تعرضت لحادثة سير، وعند تفكيكها، يتم اكتشاف حقيبة مليئة بالدولارات.

 

واقعة كسرت صمت المكان ، و خلقت فوبيا عمت كل الشخوص و كسرت كل القيم التي كانت تسود المكان كما العلاقات لتتحول سكينة الدراويش القانعين الحالمين المتحابين إلى امتحان صعب عاشه “البشتاوي”، و من خلاله أحلامه الطوباوية اليسارية التي طالما سيطرت على ثقافته و حضرت ضمن مفردات الهوية المرجعية التاريخية لهذا الهيكل المنخور أمام سلطة من خارج النص حضرت لسلب المكان هدوءه و الإنسان واقعية العيش التي كان يؤمن بها و يمارسها .

 

 

ليطرح السؤال الشبقي الضروري لضمان الولادة / المستقبل ، ما العمل؟ سؤال طرحه “البوشتاوي” على نفسه ؟ و كيف سيتصرف مع حقيبة مليئة بالمال؟. و الآثار المنتظرة انعكاسها على المجموعة و قيم الجماعة التي طالما آمن بها و حلم بممارستها و حاول تنزيلها في سوق المتلاشيات من الهياكل و الجثث، و ما علاقة كل هذا و ذاك بتلك الصحافية التي أتت من مدينة الأنوار و التي حضرت لتنجز تحقيقا صحافيا حول عصابات الإتجار اللا مشروع في التحف؟ وما طبيعة العلاقة الناظمة بينها و بين “البوشتاوي” إنسانيا و عمليا، أسئلة عديدة تفجرت في رحلة التيهان مع قيمتي المال و حضور الأنثى الزمن الماضي، بكل تفاصيله ، لتتيه الحكاية في رحلة البحث عن تلك التفاصيل الصغيرة التي حولت المشهد الدرامي رأسا على عقب، فاتحة أفقا ممتدا مليئا بغبار سميك من الظل و الأسئلة الشائكة التي تراوح مكان الظل، و تنشر في رحلة البحث عن الجواب الغثيان …؟
كل ذلك في فضاء المكان الذي اختارته مبدعتنا من المدينة الحمراء ، مراكش ، و سوق المتلاشيات ، الذي يعكس الولادة و التألق و الحلم بالسمو الروحي قبل المادي.

 

 و للإشارة فالمخرجة و المنتجة العصامية “مريم آيت بلحسين” أخرجت حتى الآن خلال مسيرتها الفنية أربعة أفلام قصيرة و 3 وثائقيات، و يعتبر هذا الفيلم “بابا ماركس” أول تجربة في مجال الأفلام الطويلة ، و هو من إنتاجها الذاتي و إخراجها في واقع سينما تتغدى من احتراق ممارسيها كما الشمعة لتنير الدرب للآخرين .فيلم طويل سيرى النور قريبا يحمل عنوان “بابا ماركس”، و هو فيلم يستحق المتابعة و المشاهدة نصا و إخراجا و أداء و قيمة إنسانية كبرى ينقلها عبر عوالم متخيلة من الواقع و إلى الواقع عبر الصورة و الأفق الممتد لفنانة حالمة ولادة عطاء و تمردا و حياة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.