الصراعات (اليهودية – اليهودية).. هل اقتربت لحظة التخلي الأميركي عن إسرائيل؟

تبدأ القصة بما نعرفه جميعا الآن؛ فلم تكد نائبة ولاية مينيسوتا الديمقراطية “إلهان عمر” تمضي بضعة أسابيع في موقعها الجديد بمجلس النواب الأميركي؛ حتى نجحت في إثارة عاصفة من الجدل فاقت ذلك الجدل الذي صاحب فوزها بالمقعد قبل أشهر قليلة -نهاية العام الماضي- كأول لاجئة صومالية مهاجرة وواحدة من امرأتين مسلمتين فازتا لأول مرة بمقعد تشريعي في مجلس النواب الأميركي، وكان الجدل هذه المرة بفضل تغريدة أطلقتها “عمر” عبر حسابها الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”، وهي تغريدة يبدو أن “إلهان” تجاوزت عبرها بشكل مبكر أحد الخطوط الحمراء القليلة للمشرعين الأميركيين، عبر انتقادها لتأثير ونفوذ اللوبي الإسرائيلي في الحياة السياسية الأميركية، وهو خط أحمر لم يجرؤ أكثر السياسيين المخضرمين في واشنطن على تجاوزه في أي وقت.

 

ففي تغريدة لها في فبراير/شباط المنصرم، قالت “عمر” إن دفاع السياسيين الأميركيين عن إسرائيل “يتعلق دوما ببنجامين”، في إشارة إلى ورقة المئة دولار التي تحمل صورة الرئيس الأميركي الأسبق “بنجامين فرانكلين”، وكانت “عمر” تقصد(1) على ما يبدو الأموال التي تدفعها لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية الشهيرة “آيباك”، وقد أثارت التغريدة انتقادات واسعة وسط اتهامات للنائبة المسلمة بمعاداة السامية، انتقادات لم تقتصر على الرئيس دونالد ترامب والذي طالبها وقتها بالاستقالة من موقعها رغم اعتذارها عن التغريدة وحذفها في وقت لاحق، ولكنها شملت أيضا العديد من قيادات الحزب الديمقراطي نفسه، وفي مقدمتهم زعيمة الأغلبية بمجلس النواب والديمقراطية المخضرمة “نانسي بيلوسي”، والتي قالت إنها تحدثت إلى “إلهان” وطالبتها بالاعتذار عن موقفها.

وعلى الرغم من أن المشهد وقتها بدا وكأنه بمنزلة إجماع سياسي على انتقاد إلهان عمر، وتأكيد للخطوط الحمراء التي تمنع ما ينظر إليه سياسيو واشنطن كـ “عبث” بالقواعد الضمنية للعلاقة بين اللوبيات الداعمة لإسرائيل وبين السياسيين الأميركيين، حتى لو تطلّب ذلك توظيف معاداة السامية مجددا كسلاح(2) لإسكات منتقدي دولة الاحتلال؛ برغم ذلك فيبدو أن تغريدة النائبة الديمقراطية -والنقاش الذي أثارته- قد كشفت النقاب عن خلاف يختمر في الولايات المتحدة منذ فترة طويلة حول طبيعة علاقة البلاد مع إسرائيل، والأسس التي تقوم عليها هذه العلاقة، وعما إن كان الدعم غير المسبوق الذي قدمته واشنطن لتل أبيب على مدار سبعة عقود تقريبا له ما يبرره أم لا، وهو خلاف يدور بشكل رئيس ضمن صفوف قواعد الناخبين الديمقراطيين، ويتسبب يوما بعد يوم في انقسام واضح بين صفوف سياسيي الحزب الديمقراطي.

  

كان هذا الانقسام واضحا في اجتماع التاسع من يونيو/حزيران لعام 2016، حين عقدت اللجنة المكلفة بصياغة وثيقة مبادئ سياسية جديدة للحزب الديمقراطي اجتماعاتها باليوم الثاني في فندق “أومني شورهام” في حي “وودلي بارك” الراقي في واشنطن، وتهدف الوثيقة التي تتم إعادة كتابتها كل 4 أعوام -على رأس كل انتخابات رئاسية- إلى التعبير عن توافق الآراء بين الديمقراطيين حول القضايا الرئاسية، وقد تضمنت الجلسة المسائية في اليوم المذكور نقاشا حول ما ينبغي أن يتم إدراجه حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وكان على الديمقراطيين حينها أن يختاروا بين تجديد موقف الحزب الرسمي المؤيد بقوة لإسرائيل، وبين تقديم بعض التنازلات للفلسطينيين.

 

قبل أيام فقط من تلك الجلسة -التي روت(3) وقائعها صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية- كان من الواضح أن “هيلاري كلينتون” في طريقها لتأمين العدد الكافي من المندوبين لضمان بطاقة الترشح عن الحزب في الانتخابات الرئاسية المنتظرة، غير أن “بيرني ساندرز” لم يكن قد رفع الراية البيضاء بعد، وقررت اللجنة الوطنية الديمقراطية -التي عادة ما تقوم باختيار اللجنة المنوطة بصياغة هذه الوثيقة- أنها ستسمح للمرشحين الرئيسيين باختيار معظم أعضاء اللجنة البالغ عددهم 15 عضوا، حيث تم السماح لساندرز باختيار 5 أعضاء، بينما كانت حصة كلينتون 6 أعضاء، فيما اختارت اللجنة نفسها الأعضاء الباقين “4”.

بيرني ساندرز  (الفرنسية)

 

لاحقا، اجتمعت اللجنة المختارة في قاعة أخرى داخل الفندق نفسه بحضور المندوبين الذين اختارهم كلا المرشحين، وللوهلة الأولى ظهر التباين الواضح بين المندوبين الذين اختارهم كلا المرشحين، حيث فضّل “ساندرز” اختيار مندوبيه من الأقليات مثل الأكاديمي الأميركي صاحب الأصول اللبنانية “جيمس زغبي”، رئيس المعهد العربي الأميركي، إضافة إلى الناشطة الأميركية “ديبورا باركر”، و”كورنيل ويست” وهو أستاذ جامعي من أصل أفريقي، فيما كان معظم الذين اختارهم كلينتون لتمثيلها من اليهود الأميركيين، مثل عضو الكونغرس المتقاعد “هوارد بيرمان”، ووكيل وزارة الخارجية السابق “ويندي شيرمان”.

 

بالإضافة إلى ذلك، قام كلٌّ من “ساندرز” و”كلينتون” بتحديد شخص واحد لتقديم شهادته كخبير، وكان خبير ساندرز هو “مات دوس” الذي كان آنذاك رئيسا لمؤسسة سلام الشرق الأوسط، أما كلينتون فقد اختارت “روبرت ويكسلر” وهو عضو كونغرس يهودي سابق عن ولاية فلوريدا وأحد الداعين لعلاقات أبدية بين واشنطن وتل أبيب، وقد تحدث “ويكسلر” كمؤيد لحل الدولتين ورافض لوضع كلمات “الاحتلال” و”المستوطنات” في برنامج الحزب، كما انتقد حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات “بي دي إس” والتي تسعى لممارسة ضغوط دائمة على إسرائيل لإنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية، محتجا بأنه في الوقت الذي تتزايد فيه معاداة السامية حول العالم، فإن الديمقراطيين عليهم محاربة أي جهود تهدف إلى عزل إسرائيل بدلا من إضفاء الشرعية عليها.

 

في المقابل، تحدث “دوس”، الخبير المعين من قِبل ساندرز، مُنوّها بأهمية الصداقة مع إسرائيل، لكنه انتقد في الوقت نفسه “الاحتلال الإسرائيلي” المستمر للأراضي الفلسطينية والقيود التي تفرضها على الحريات السياسية والمدنية للشعب الفلسطيني، قائلا إن الصراع يضر بالمصالح الأميركية ومستشهدا بملاحظات لجيمس ماتيس قائد القيادة المركزية الأميركية -والذي سيصبح وزير الدفاع لاحقا- في عام 2013، والتي قال فيها إن الولايات المتحدة “دفعت ثمن تحيزها لإسرائيل من أمنها العسكري”.

جيمس ماتيس (غيتي)

 

وجاءت كلمة “كورنيل ويست” المعين من قِبل ساندرز لتصب في السياق ذاته؛ حيث انتقد تمسك الحزب الديمقراطي طويل الأمد بـ”آبياك” التي لا تأخذ حقوق الفلسطينيين بالجدية الكافية، ومُنوّها بأن الحزب يمر بنقطة تحوّل في قواعده الجماهيرية، وأن هذا هو السبب وراء دعمه لحركة مقاطعة إسرائيل “بي دي إس”، قائلا إن الأمر لا يتعلق بمعاداة السامية التي لا يجب أن تستخدم كذريعة للتقليل من معاناة الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.

 

كانت الغلبة في نهاية المطاف لصالح فريق كلينتون، حيث لم يشر النص النهائي إلى المستوطنات وتم استبعاد لفظ “الاحتلال”، فيما تمت الإشارة إلى القدس بوصفها عاصمة لإسرائيل وحدها، وتمت إدانة أي جهد لنزع الشرعية عن إسرائيل عبر حملات المقاطعة، غير أن تلك الصيغة الصارمة والمنحازة لم تفلح في إخفاء حقيقة صارت واضحة وضوح الشمس؛ وهي أن هناك انقساما لا يمكن تجاهله داخل الحزب بين فريقين كبيرين يضم أحدهما القيادات الروتينية المتمسكة بالعلاقة التقليدية مع إسرائيل واللوبيات الموالية لها، وهي قيادات ترى أن أي انحراف عن هذا الموقف يمكن أن يتسبب في خسائر كبيرة للحزب، ليس فقط على مستوى الممولين الذين يُشكّل اليهود الأميركيون نسبة كبيرة منهم، ولكن أيضا على المستوى الجماهيري في ظل الاستقطاب المتزايد مع الجمهوريين.

 

فيما يضم الفريق الآخر القيادات الأكثر تقدمية التي تأخذ بالاعتبار التغيرات المتزايدة في الأسس التي قامت عليها العلاقات الأميركية الإسرائيلية، والمشهد المتغير لقواعد الناخبين الديمقراطيين الذين أصبحوا بمرور الوقت أقل تمسكا بإسرائيل وأكثر تشككا بممارساتها وسردياتها، وهو موقف لا يقتصر على الأقليات التي اكتسبت نفوذا متزايدا في المجتمع الأميركي، ولكنه يصل إلى قواعد الدعم الأصيلة لإسرائيل من اليهود الأميركيين، الذين كانوا تاريخيا -ولا يزالون- أكثر ولاء لمبادئ الديمقراطيين من ولائهم المفترض لإسرائيل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.