توقف الرحّالة والجغرافي العربي شمس الدين المقدسيّ البشاري (من أعمال القرن الرابع الهجريّ، العاشر للميلاد) في مصنّفه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» عند مزايا مدينة صحار المطلّة على بحر عُمان وموقعها ضمن شبكات التجارة البحرية في زمانه. فبعد أن يذكر أنّ «عدن دهليز الصين مع صحار» يعود وينوّه مليّاً بصحار نفسها من حيث هي «قصبة عُمان ليس على بحر الصين اليوم (يقصد المحيط الهندي!) بلد أجلّ منه عامر» ويصف أسواقها بالعجيبة والدور فيها بأنها شاهقة نفيسة، وبأنها خزانة الشرق والعراق ومغوثة اليمن، وقد غلب عليها الفُرس، ويقصد بالذات العائلات التجارية القادمة إليها من سيراف – على الضفة الشرقية للخليج والعديد منهم من اليهود.
بطبيعة الحال، لم يكن مفهوم الرأسمالية لا على الخاطر ولا على البال عند هذا الرحالة الذي جاب البحار وطاف بالأمصار طلباً للتجارة في أوّل المقام. مع هذا، وكما يلفت انتباهنا المؤرخ الاقتصادي الهندي جايروس باناجي في «موجز تاريخ الرأسمالية» 2020 فإنه لا يمكن التأريخ لبدايات ظهور الرأسمالية من دون صحار وأخواتها في تاريخ الشبكات التجارية الممتدة.
وباناجي يترصّد «رأسمالية ما قبل الرأسمالية هذه»، أو رأسمالية ما قبل الثورة الصناعية، ليس فقط بتتبع خطوط التجارة عبر المحيطات، وإنما بتعقب تجارب المستوطنات التجارية التي كانت تنشأ، إما في إقسام من المدن وإما في جوارها وإما تكون فاتحة لتأسيس مدن جديدة.
فهذه القصبات المنذورة للتجار الأجانب المسموح لهم بالمجيء، والتي عرفها الأوروبيون لاحقاً بمسميات «الفاكتوري» و«الكونتوار»، كان كل واحد منها يشكّل قفيراً له حيّزه الخاص ضمن المدينة التي تقتطع هذا الحيّز منها له. وكانت علاقة المدينة بالعالم الخارجي تمرّ بشكل أساسي من خلال ثقافة هذه الأحياء التجارية «الأجنبية» الداخلة فيها، والمتفاوتة من حيث أنماط تماس مع المكونات الأكثر محليّة لهذه المدينة، وأهالي الأنحاء. وإلى حد كبير، كان لتاريخ تنامي هذه الكونتوارات منطقه غير الخاضع بشكل آلي لانقلاب أحوال الممالك والملل. فحتى بعد أن خسر المسلمون صقلية، وكنت في «قصبة بالرمة» (بالرمو) إقامة الصلوات في مساجدها المقفلة أو المحوّلة إلى كنائس، يذكر الرحالة الأندلسي ابن جبير كيف يحظى التجار المسلمون في الوقت عينه بحيّ خاص بهم قرب المرفأ. كذلك في تونس، وبعد أن اندثرت المسيحية في شمال أفريقيا بين العرب والبربر، فقد كان للتجار الإفرنج حيّهم شرقي «باب بحر»، وستطور المدينة الكولونيالية لاحقاً في القرن التاسع عشر كامتداد لهذا الحي. وبالعودة إلى صحار التي يظهر الرحالة المقدسي تألقها التجاري في زمانه، فجايروس باناجي يزيد على التجار السيرافيين في المدينة جماعة من الطبقة التجارية الوراثية في المجتمع الهندوسي، ألبانيا، وقد استمر الحضور القوي للبانيا الهنود في صحار ومسقط لقرون طويلة، وحافظوا فيها على تقاليدهم وأزيائهم وحفظوا سجلاتهم بالكوجراتية والسندية. من قوانين «رأسمالية ما قبل الرأسمالية» هذه عدم اندماج التجار الأجانب بمجتمع الاستقبال.
لم يكن مفهوم الرأسمالية قد نُحَتَ بعد عندما وثّق الرحالة والتاجر المقدسي معرفته الجغرافية المختبرة. مع هذا، وفي تواشج مع فكرة عبّر عنها مكسيم رودنسون في كتابه المحوري «الإسلام والرأسمالية» 1966، ومفادها أن التجارة في الحضارة الإسلامية كانت أقرب شكل الى الرأسمالية عرفته تاريخ الكوكب قبل القرن السادس عشر للميلاد، يشدّد باناجي على التطور في الاتجاه التمهيدي للتراكم الرأسمالي في المصطلحات العربية المستخدمة، بدءاً من مصطلح «المال»، وبخاصة مع التمييز الفقهي لـ «المال المتقوم» وهو كل شيء له قيمة عند الناس يصح التعاقد عليه ويُباح الانتفاع به، ومن ثم مصطلح «رأس المال» الذي يورده الواقدي في «المغازي» على لسان التاجر القرشي صفوان بن أمية في قوله – أنه إذا سدّت سبل التجارة أمامه – «نأكل رؤوس أموالنا» – أي ما يستخدم من المال بقصد الاستثمار.
ذكر مكسيم رودنسون في كتابه المحوري «الإسلام والرأسمالية» 1966، أن التجارة في الحضارة الإسلامية كانت أقرب شكل الى الرأسمالية عرفته تاريخ الكوكب قبل القرن السادس عشر للميلاد
هل «الرأسمالية التجارية» السابقة على «الرأسمالية الصناعية» والتي يتعقب باناجي تاريخها في تواريخ المسلمين والروم (بيزنطة) تعني «ما قبل تاريخ» تمهيدي للرأسمالية، أو رأسمالية من نوع آخر؟ الإجابة لا تبدو قطعية في شغل باناجي، لكن النتيجة المباشرة للجهد الذي يقوم به هو توسعة حقل ولادة الرأسمالية بعيداً عن الحاضرة الأوروبية، والفارق الأساسي هنا أنه في وقت نشأت فيه البرجوازية في النطاق الأوروبي، وهي الطبقة التجارية والمصرفية قبل أن تستثمر أكثر فأكثر في الصناعة، كطبقة من داخل المجتمعات الأوروبية نفسها، وكانت الثورات البرجوازية كذلك لأن البرجوازية طرحت نفسها على أنها تقود مجتمع المحرومين من الامتيازات بوجه ذوي الامتياز، النبيلي أو الديني، فإن شبكات التجارة والإقراض التي يتعقبها باناجي من بالرمه وإزمير الى صحار وكاليكوت وملقا وغوانتزو كانت «أجنبية» أو مخالفة في اللغة أو في الدين أو كليهما نسبة للمدينة التي تختص منها بحيّ دون سواه.
يظهر ذلك بمفارقة بالغة في حال القسطنطينية. فهذه المدينة في القرنين الحادي والثاني عشر مثلاً كان قرابة عشر سكانها من الجاليات التجارية الإيطالية المختلفة، المخاصمة الواحدة منها للأخرى. رغم وجود طبقة تجارية رومية (يونانية) محلية قوية وحيوية. السلطات الامبراطورية في المدينة، والأرستوقراطية ذات المنشأ العسكري، كانت تفضل اعطاء الامتيازات والاعفاءات للتجار الأجانب، البنادقة والجنويين، على أولاد المدينة، وثمة آثار مكتوبة عديدة من تلك الفترة يظهر من خلالها حنق التجار الروم على هؤلاء التجار الإيطاليين المدعومين على حسابهم هم في مدينتهم، وتخوفهم من أن يؤدي الصراع المحموم بين البنادقة والجنويين من الأغراب الى خراب المدينة نفسها، وهو ما حصل في نهاية المطاف مع «الحملة الصليبية» الرابعة عام 1204، التي لم تكتف بتخريب المدينة، إنما استبيحت فيها مرافقها ومواردها للبنادقة، بحيث انقطع سبيل تجارة جنوى فيها الى أن استعاد الروم القسطنطينية عام 1262، وحينها انقلبت الحال لصالح جنوى على حساب البندقية. في المقابل، يقدّم لنا باناجي النموذج المملوكي في تدبر الرأسمالية التجارية، على أنه قائم بالأساس على النأي بالذات عن الوقوع فريسة للتزاحم بين الجمهوريتين التجاريتين الإيطاليتين، جنوى والبندقية.
يقابل باناجي أساساً بين هذين النموذجين من الرأسمالية التجارية ما قبل الحديثة. ذلك القائم في نطاق حاضرة متروبولية (القسطنطينية) وذلك الممتد على مدى التجارة في مملكة الإسلام الفسيحة.
«مملكة الإسلام» مصطلح يستخدمه المقدسي. ذلك أن الرحالة المولود في بيت المقدس والمتوفي في القاهرة يورد في مقدمة كتابه أنه يحصر عرضه بالأقاليم الإسلامية: «ولم نذكر الا مملكة الإسلام وحسب ولم نتكلف ممالك الكفار لأنها لم ندخلها ولم نر فائدة في ذكرها بل قد ذكرنا مواضع المسلمين منها». لهذا، يعدّ مصنفه مرجعاً أساسياً لفهم امتداد الشبكات التجارية والمالية ضمن هذه «المملكة الجغرافية الدينية» وليس خارجها. في المقابل، سنجد في «تحفة المجاهدين في أحوال البرتغاليين» والمكتوب بالعربية، لابن القرن السادس عشر الميلادي، العاشر الهجري، على ساحل الملابار، كيرالا بجنوب
لهند، الشيخ أحمد زين الدين الملاباري، التوثيق الأهم لعملية تدمير البرتغاليين في فاتحة العصور الحديثة للشبكة التجارية الإسلامية في المحيط الهندي.
فالشيخ الملاباري يشرح أن البرتغاليين قدموا «لطلب بلاد الفلفل ليختص تجارته بهم» ويدغم بين مسعاهم لمنع المسلمين من التجارة، ومنعهم من السفر الى «برّ العرب» وبين الحرب الدينية عليهم كمسلمين، وأحياناً بإظهار الصلح لهم للتعايش معهم بما أن «أكثر سكان البنادر التي في ساحل البحر» من المسلمين. ويميز الشيخ بين الكفار المحليين الذين لا يخدعون في حروبهم، «بل يعينون يوماً معلوماً للحرب لا يخالفونه» وبين الأسلوب البرتغالي القائم على المخادعة.
هنا يمكن الحديث عن نقلة من «الرأسمالية التجارية ما قبل الحديثة» الى المسار التراكمي الذي سيصنع الهيمنة الأوروبية شيئاً بعد شيء، ويتيح في كنفها تطور نمط مختلف وحداثي من الرأسمالية يستلزم اقامة صلة عضوية فيها بينها وبين الدولة. وباناجي هنا يستعيد فرنان بروديل الذي، وإن تحدث عن رأسمالية سابقة بألف عام لانتصار الرأسمالية الحاسم في الغرب ثم على صعيد الكوكب، إلا أنه شدّد على أن الرأسمالية تنتصر فقط عندما تتماهى مع الدولة، بل عندما تصير هي الدولة. بالتالي، خلاصة باناجي أن حدود تطور الرأسمالية التجارية الإسلامية لم تتجاوز العلاقة البرانية، غير العضوية، بين تراكم رأس المال وبين الدولة السلطانية الإسلامية.
كاتب من لبنان