بعض من التاريخ الرمزي بالبادية المغربية…

إشكال بقدم في التداول والتناول هو تدبير ندرة مياه السقي بالبادية المغربية، هذا وفق إرث ثقافي وسبل تحكيم وحكامة خاصة وتقاليد محلية موروثة تهم الإجراء والفعل المباشر في علاقة بأساليب سقي معتمدة عند المغاربة منذ قرون. ورغم أن الأعراف المائية غير محددة بدقة فهي مجال خصب لدراسة أشكال تدبير هذه المادة بالأرياف منذ الماضي والى غاية اليوم. ولعل تقاليد المجتمع المغربي كغيره من المجتمعات تتطور مع مرور الزمن، ما جعلها بمفاهيم في حاجة لتحديد وتتبع، مع كون الأعراف المعتمدة هنا وهناك كقوانين في طور التكوين هي بمثابة سياقات تحتوي نماذج جاذبة للتدقيق والتعريف.

ومن باب الاحالة في هذا الشأن نعتقد أنه من المهم إثارة ما هو مناخي يخص مرتفعات الأطلس المتوسط الشمالي الشرقي حيث مغراوة وتامجيلت وبركين وجرسيف وغيرها من المجال المفتوح على شرق المغرب، وعياً بما يمكن أن تسهم به هذه الاثارة  من حيث تكوين فكرة حول المجال المعني بهذه الورقة وبخاصة حول ما هو بيئي. وسؤال الماء بهذه الوجهة من المجال المغربي لا يعني ما يحاط بهذا الإشكال من أهمية بجنوب البلاد حيث الندرة معبرة، على أساس صعوبة إثبات نقص المياه تماما بداخل البلاد بمجال جبلي هو جزء من الأطلس المتوسط كخزان مياه أساسي، بل يصعب إثبات ذاك حتى في أسافل جبلية لتجميع المياه كما بالنسبة لمنطقة بويبلان، ومع ذلك فالمشكل المائي مطروح بها وبنفس حدة وتخوف ما هو كائن بجهات أخرى من البلاد كسوس مثلا. وإذا كانت المناطق المرتفعة من الأطلس المتوسط الشمالي الشرقي تستقبل كميات هامة من المياه، فبالمقابل غير بعيد هناك مجال منخفض مفتوح على حوض جرسيف وامسون هو تقريبا شبه جاف بسبب نقص التساقطات. وهذا المجال الذي ينحصر بين واد زبزيط ومللو وبوراشد يطبعه جفاف يمتد إلى منطقة أهل الثلث وهوارة، فضلا عن كون حياة السكان محليا تقوم على مقدار ما يستقبله مجالهم من مياه لسقي زراعاتهم وتوفير شرب ماشيهم.

وتاريخياً استعمل أهالي المنطقة الماء في زراعة الحبوب وغرس الأشجار المثمرة، ونادراً ما استغل الفلاحون منهم أرضا بورية باستثناء بعض المناطق الجبلية. وعليه، كل آمالهم كانت توضع على ضيعاتهم المسقية وما يتعلق بمياه السقي كان دائما هاجسا جوهريا. ومنذ القدم كان نزاع الأهالي حول هذه المادة الحيوية بوسطهم القروي وحول حيازتها ووضع اليد على نقطها ومصادرها الأساسية. ولم يكن هذا النزاع بين الأفراد فقط بل أيضاً مع عوامل الطبيعة خلال الفترة المطيرة من أجل حماية الأراضي المهددة بفيضانات الأودية. ومن هنا ما اكتسبه هؤلاء من ثقافة تدبير وتقاليد هامة وحكامة تلقائية تخص هذا المجال، كذا من خبرة حول الماء ونظامه وجميع ما يتعلق ببناء سواقي وحفر آبار وتشييد مدرجات لحماية الضيعات من فيضان الأودية إضافة لمِا هو تنظيم جيد لعملية السقي. وبحكم طابعها المناخي كان فيضان الأودية في المنطقة بأثر معبر في تغيير معالم الأراضي الزراعية، بحيث كان يتم إغراق كل شيء من حدود وثوابت حقول وأشجار مثمرة وغيرها، ناهيك عن إغراق الأراضي الصالحة للزراعة وتغطيتها بأتربة وأحجار منقولة بواسطة المياه الجارية.

وبأعالي جرسيف على سبيل السياق نتج مثلا أثناء فيضان واد بني بونصر أواسط ثلاثينات القرن الماضي، خسائر عدة جمعت بين قتلى من الأهالي وحوالي ألف ومائتي رأس من الماشية جرفتها المياه مع خمسمائة هكتار من أراضي الذرة ومائتي هكتار من الأراضي المسقية إضافة لألف ومائتي شجرة مثمرة وعشرات البيوت القروية. وكلما حصل فيضان لأودية محلية بالمنطقة كلما صعب العثور على علامات حدود الأراضي الزراعية لدى أصحابها، كلها شروط حياة صعبة كانت تنضاف لِما كان يرتبط بمياه السقي المعتمدة على الأودية، ولِما كان من أعراف وتشريع على بساطته مؤطر ومدبر لِما كان يطرح من مشاكل بين الأهالي. علماً  أن أصحاب الأراضي المستفيدين من مياه السقي لم يكن يصلهم سوى القليل منها أمام مجموع من كان بحاجة لها، وأن جل الفلاحين كانوا يعتمدون على مياه العيون مصدراً لسقي أراضيهم. وللإشارة فالمنطقة كانت بعدد كبير من عيون المياه التي تعرف زيادة في صبيبها أثناء الفترة المطيرة، ما كان يسهم في تغذية الأودية وتوسعها خلافاً لمِا كان يحدث خلال الصيف مع ضعف الصبيب، وحدوث من جريان سوى لمسافات قصيرة في مجال واسع، بحيث عند خروج المياه من العيون تدريجياً تتعرض لعاملي التسرب والتبخر، ولهذا فبالقرب منها كان يلجأ الأهالي لربط ساقيتهم بقصد نقل المياه إلى حقولهم. ومن هنا بداية الصعاب التي كانوا يواجهونها عند إقدامهم على فتح سواقيهم في مناطق صخرية وعلى مسافات طويلة، احتاجت لتعاون الأفراد من أجل تحقيق منشآت سواقي لتوزيع المياه بينهم. وعادة ما كان يتم تجميع المياه في مخزن يسمى”تجنيت”، وجميع من كان يساهم في بناء الساقية وفي حفر مخزن المياه يستفيد من كمية مياه «قسمة» تناسبه، الأمر الذي يطرح سؤال أعراف المياه بالمنطقة وعلاقتها بالزراعة.

ولم تكن تدخل عند الأهالي ملكية المياه في ملكية الأرض، وعليه عبر عقود بيع وتقسيم وحيازة فقط يمكن التعرف على سبل انتقال ونقل ملكية المياه الخاصة بالعيون. وهذه العقود أربعة أنواع هي بيع أرض مسقية بدون إبراز وتحديد الحق في الماء، عقود بيع أراض مسقية بدون حق في السقي، عقود بيع أرض مسقية مع تحديد وإبراز الحق في مياه السقي وأخيراً عقود بيع الماء فقط، وكانت هذه العقود تتم وفق الشكل التالي: “عقد بيع رقم …في…المسمى…باع للمسمى…والذي قبل أرضا مسقية مساحتها.. بقدر .. هو…”. إن بيع مياه السقي خاصية بعض جهات البلاد منها مثلا أعالي بركين جنوب جرسيف بالمغرب الشرقي، وهي وضعية بعمليتي بيع وشراء تثبت أن المياه كانت متوفرة بقدر كاف لسقي الأراضي وأن الفرد لا يبيع منه سوى فائض ما يتوفر عليه. وكان هذا الأسلوب يسمح بأثر اقتصادي واجتماعي يقلل من منع بيع هذه المادة الحيوية في أرياف المنطقة مادام أنها ممكنة. ولم يكن الماء مصدر ربح بأثر ايجابي كتجارة سوى بالنسبة للأغنياء، الذين يمكنهم بيع جزء من مياههم دون معاناة أراضيهم من نقص هذه المادة الأساسية. أما الفقراء فقد كانوا يضطرون للمعاناة أكثر من أجل شراء مياه سقي كافية لضيعاتهم الضيقة، مع أهمية الإشارة إلى أن كسل بعض المزارعين كان يدفعهم لبيع مياههم، على أساس أن دخلهم من هذه العملية تكون أفيد من سنتين فلاحيتين أو ثلاث. وكحال نقل ملكيته فإن فقدان حق ماء السقي يتبع مصير الأرض التي يسقيها والتي تكون معزولة عنه، والحالة الأكثر انتشاراً والعادية بهذا المجال من المغرب الشرقي هي البيع مع الأرض وبدونها كذلك، كما أنه عند الوفاة يتم تقسيم الممتلكات على الورثة المستفيدين من الماء.

وعلى قدر كبير من الانتشار كانت الدعاوى الخاصة بالمسألة المائية، فالمحكمة العرفية ببركين مثلا غير بعيد عن جرسيف عرفت عدة دعاوى تخص هذا الإشكال، همت قضايا سواقي مائية ومخازن مياه وتغيير لوجهة قنوات مياه وسرقتها أيضاً. نذكر منها على سبيل المثال شكاية تعود الى ثلاثينات القرن الماضي، أورد فيها المشتكي  أن ضيعته تعرضت لاجتياح مياه قادمة من ساقية جيرانه مما تسبب في ردم وانهيار جعله يلجأ للعدالة طلباً للتعويض. شكاية رد عليها المشتكى بهم أنهم ليسوا ممن كانوا يسقون الأرض لما حدث ما حدث، وهو ما دفع لزيارة المكان من قِبل عنصرين عن المحكمة العرفية بقصد المعاينة. ليتبين أن الخسارة شملت مساحة قدرت بحوالي ثلاثة عشرة متراً على مترين، مع تقدير كلفة الضرر في خمسة عشرة دورو مع أجل أسبوعين للمشتكى بهم من أجل دفع القدر المحدد.

ولم يكن ممكناً لأي أحد كيف ما كان الاعتراض على مرور مياه السقي المسماة «السبيل»، وحتى إذا كانت هذه المياه تقطع أرضا في ملكية فرد ما ولا يستفيد منها لم يكن له حق المطالبة بأي تعويض. ولا يحتوي السقي بمياه الأودية بأعالي المنطقة على أية أساليب خاصة، كل ما هناك هو أن أي مستفيد يقوم بسقي أراضيه والمهم بالنسبة إليه استفادته من مياه كافية، والعملية كانت تقوم على عنصرين أساسيين جهده الخاص وصبيب مياه الوادي. هذا بخلاف ما يتعلق بالسقي اعتماداً على مياه العيون، النظام الذي يحتوي أساليب عدة ذات علاقة بتقاليد وإرث ثقافي عن السلف، إذ سقي الأراضي يتم بشكل مباشر عندما يستقبل كل فرد المياه مباشرة من الساقية نفسها. وتكون العملية غير مباشرة عندما تصب مياه الساقية في خزان مائي يتم منه أخذ المياه وفق كمية محددة لكل مستفيد، وعليه فعملية السقي الأولى تتم وترتبط بوقت ومدة جريان المياه، أما الثانية فلها علاقة أساسية بحجم المياه الموجودة في حوض الاستقبال(خزان مياه).

وكان أهالي المنطقة وأعاليها يقومون- إرث ثقافي بعلاقة قديمة مع المشاهد الزراعية محلياً- بحفر ساقية تنطلق من عين مائية ما متجهة إلى ضيعات من أجل السقي، وهذه الساقية كانت تمتد أحياناً لكيلومترات آخذة اسم المواقع التي تمر منها. ومن هنا فإن أخذ المياه والاستفادة منها اعتماداً على عيون، كانت بمثابة نموذج مباشر للسقي ونموذج لكمية المياه المقتطعة والمحددة، اعتماداً على وحدة قياس تعرف محلياً بالنوبة أو “الدور”، الذي يعني المدة المحددة التي يستفيد منها كل فرد أو جماعة من كمية مياه ما. وهذه المدة تساوي إما عدداً من الأيام أو جزءً من يوم واحد، و”نوبة” اليوم قد تساوي عدداً من الساعات منذ طلوع الشمس ونوبة الليل قد تساوي مدة وقت تبدأ منذ غروب الشمس، كما أن عدد الساعات سواء في النهار أو الليل هي نسبية بحسب فصول السنة. وهناك تباين بين فترات السقي بالنسبة لكل ضيعة مستفيدة بحسب الوثائق الخاصة بتقسيم المياه وبيعها، والتي قد تتضمن حديثاً عن ثمن اليوم وساعة ونصف خلال اليوم وليلة واحدة في الأسبوع والسدس من الليل….وكان يتم اعتماد أعراف محلية لقياس الوقت المحدد للسقي بالنسبة لكل ضيعة.

ومن الاسباب التي كانت تجعل السقي المباشر محدوداً وغير مستعمل في سقي الأراضي نجد ضعف صبيب مياه العيون، ولعله سبب رئيسي لا يسمح بإعطاء كل مستفيد الكمية المناسبة وفي وقت وجيز. كما أن الفرد يلجأ أحياناً إلى خزانات تسمح له وتمكنه من كمية لا بأس بها من المياه التي يتم تجميعها في مكان ما قرب الأراضي المسقية، وسواء تعلق الأمر بالخزانات المائية أو السواقي، فكلاهما يتم الاعتماد في حمايتهما وترميمهما وتأمينهما على عمل الجماعة المستفيدة. وحول سبل تدبير الماء بما يوفر الحاجيات ويحافظ على التوازن البيئي والاجتماعي، من المهم الإشارة إلى أن كمية المياه التي كان مسموحاً بها للسقي بالمنطقة والموجهة لمن له الحق في ذلك، ترتبط أساساً بمساحة الأراضي التي يمتلكها الفرد والمعنية بالسقي. وعموما عملية توزيع المياه التي كانت تعتمد على سواقي، هي نفسها التي كانت تنطبق على توزيع المياه على الخزانات. إنما كمية المياه الموجهة مباشرة بواسطة سواقي تقاس بحسب الوقت، بينما تلك القادمة من خزانات تعتمد في تقديرها على منسوب المياه، وهو ما يفسر الإثباتات التي نجدها في عقود بيع خاصة بأراضي المنطقة (أصبعين من الخزان) (1/3 من الخزان)…

وبالقرب من المحور المنظم للجريان وفي المكان الأعمق من الخزان المائي كإرث ثقافي تدبيري محلي للماء مند القدم، كان يتم نصب عصا (عود) تحمل علامات محفورة بسكين أو مجموعة قطع خشبية مثبتة عبر ثقب خاصة فيها، والعلامة التي توجد في الأعلى تناسب كمية المياه عندما يكون الخزان ممتلئا كلياً، وفي هذه الحالة يتم فتح القناة أو المحور المنظم للجريان باتجاه الأراضي الأولى المستفيدة. وكان المستفيدون يجلسون بجوار الخزان المائي لمراقبة وملاحظة “أهرزال نوامان”، وبمجرد ما تصل كمية المياه إلى العلامة المعنية يجلس المستفيد الثاني من مياه السقي بجوار قناة أو محور تنظيم جريان المياه بعد ما يغير الماء باتجاه أراضيه. علما أن المياه تتجه إلى المزروعات والأشجار بواسطة سواقي ثانوية تعرف ب “يسورا”، باقي المستفيدين من مياه السقي يقومون بنفس هذه العملية إلى حين نفاذ المياه نهائيا من الخزان، آنذاك يتم إغلاق القناة أو المحور المنظم للجريان (الثقب) مرة ثانية ويتم انتظار امتلاء الخزان من جديد قبل البدء في عملية السقي لمرة ثانية وهكذا. والوقت المناسب لامتلاء الخزان أو وقت السقي له علاقة بمنسوب مياه العيون، لأن المياه تظل تنساب إلى الخزان رغم بقاء محور أو قناة تنظيم الجريان مفتوحاً، ويبقى صبيب مياه العيون أكثر من صبيب الساقية الأصل المنبثقة من الخزان وكلما توفرت المياه كلما كان الوقت المخصص للسقي كافياً.

وكانت المياه كقوة محركة أيضاً من موارد البيئة المحلية المعتمدة في تحريك الرحي لطحن الحبوب، علما أن المطاحن المائية بالمنطقة كانت نادرة بسبب قلة المجاري المائية الدائمة من جهة وغلاء ثمن الطاحونة من جهة ثانية. باستثناء الأعيان المستفيدين من مواقعهم ومن قدرة اقتناءهم وامتلاكهم لمطاحن مائية، كانت خدماتها ترتبط بقيمتها الميكانيكية وصبيب المياه الكائنة. ففي مدة طحن عادية كان “تليس” واحد من الحبوب – هو وحدة قياس تضم خمسة وثلاثين قردية، و”القردية”هي مجموع ثلاث كًاميلاتGamelles  والكًاملة من الحبوب تزن تقريباً كلغ واحد تتفاوت بين القمح والشعير والدرة-، يتم طحنه إما خلال النهار أو أثناء الليل(المدة)، مع أهمية الإشارة إلى أن كمية الدرة التي يتم طحنها خلال نفس المدة الزمنية لم تكن تتجاوز نصف تليس واحد. بعض فقط من كل في العلاقة بإرث ثقافي تراثي لا مادي بالمغرب، حيث الماء والقدم والسقي والعيون والأودية وسبل العيش وتدبير الندرة والتعايش، وحيث حكامة وثقافة تقاسم المشترك الحيوي وفق أعراف محلية بحاجة لتثمين وبحث ودراسة باعتبارها تراثاً رمزياً رافعاً للتنمية المحلية.

بقلم:عبد السلام انويكًة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.