ويعتبر فن التجليد إحدى أهم حلقات صناعة المخطوطات ومؤشرا على “الوظيفية” التي تميّز بها الفن الإسلامي، فمنذ أن عرف العرب الورق وجلبوه من شرق آسيا، أضحت صنعة التجليد واحدة من فنون الحضارة الإسلامية وركنا رئيسيا في عملية صناعة المخطوطات والمجلدات، وقبل ذلك كان المصحف النبوي محفوظا في غلاف خشبي، وقد كتب الصحابي زيد بن ثابت المصحف على شكل كتاب واستخدم جلداً ذا مصدر حيواني لتغليفه.
وتميز تجليد المخطوطات العربية والإسلامية القديمة عن الكتب الغربية بالورق المقوى الناعم الذي يشبه القماش، وبالزوايا الدائرية التي تحتفظ بشواهد على الاستخدام الطويل والكثيف للمجلدات، وتتناغم الأغلفة مع حافة النص المكتوب، وتحيط بها لوحات ليست مصنوعة من الخشب أو المعادن كما كان سائدا، بل من طبقات ورقية غالبا.
تقنيات التجليد في الحضارة الإسلامية
إذا كنت تعاملت مع المخطوطات والكتب القديمة، فربما تذكر رائحتها وملمسها وألوانها المميزة وحتى أصوات تقليبها التي تخبرك بالكثير عن المواد التي صنعت منها والظروف التي جرى إنتاجها فيها، ولم يقتصر الاهتمام الإسلامي بالعلوم والمعارف، وإنما بالسجلات التي تحتوي على هذه المعارف التي اجتمعت فيها العناية بالعوامل الفنية الجمالية والصناعية العملية.
وشكلت دباغة الجلود بداية فن التجليد في العصور الإسلامية المبكرة، واتصفت المجلدات العربية المبكرة بالبساطة مقارنة بالعناية الفارسية بالزخرفة والتذهيب، وأضيف إليها لاحقا فنون الأرابيسك والمنمنمات لتزيين الأغلفة.
ويبدأ التجليد بعد الفراغ من كتابة المخطوط، إذ تجمع الأوراق على هيئة كراسات أو ملازم، ويتم خياطتها معا لتكون كتلة الكتاب ويتم لصق الملازم أو الكراسات بالغراء، ثم يجري تبطينها وتركيب الغلاف وتشبيكها من جهة كعب الكتاب.
ولا يعبر “التجليد الإسلامي” عن المواهب المتنوعة والمبهرة لقرون من أعمال الفنانين فحسب، بل أيضًا يبرز التأثيرات التاريخية للثقافة الإسلامية، وخليط التقاليد الفنية الإسلامية المختلفة عبر الممالك والقارات وخاصة التأثيرات القبطية المصرية والبيزنطية والإثيوبية.
ورغم حضور التأثير القبطي الكبير في فنون تجليد الكتب الإسلامية، فقد تميزت المجلدات الإسلامية بعدد من التقنيات الجديدة بما في ذلك استخدام الألواح الخشبية أحياناً ونظام ربط الأوراق، وأيضًا تقنيات الزخرفة الدقيقة والتذهيب والختم.
وتتطلب هياكل الربط والتجليد الإسلامية معدات أقل وأبسط مثل إطارات الخياطة التي تناسب “الورقة الإسلامية” بتصميمها المصقول اللامع والسلس، لكنها مع ذلك تميزت بمتانتها التي جعلتها تحتفظ بهيكلها لقرون طويلة في بعض الأحيان.
وعرف العرب صناعة الورق على يد حرفيين صينيين عقب فتح سمرقند بداية القرن الثامن الميلادي، وحكى المؤرخ الثعالبي في “لطائف المعارف” أن الورق من الصناعات الصينية التي انتقلت إلى العرب المسلمين على يد أسرى موقعة تالاس التي جرت في منتصف القرن الثامن الميلادي بين المسلمين بقيادة زياد بن صالح الخزاعي وجيش أسرة تانغ الصينية التي كانت تتوسع غرباً قبل أن تصطدم بالخلافة العباسية.
ولاحقا أصبحت سمرقند عاصمة لورش صناعة الورق الإسلامي، وعرفت بغداد ورشة لصناعة الورق خلال عصر هارون الرشيد كذلك، وتطورت في هذه الأثناء تقنيات تجليد الكتب وربط الأوراق.
وجلبت الشعوب العربية والمسلمة تقنيات وورش التجليد إلى الشرق الأوسط وأوروبا، ويمكن العثور على آثار وأنماط التجليد الإسلامية التاريخية من إندونيسيا إلى إسبانيا مرورا بوسط آسيا وشمال أفريقيا.