أحمد خالد توفيق وسينما الحب والأحلام

الأمر أشبه بالسحر أو التعويذة التي أُلقيت عليه مباغتة في صباه، وهو جالس في قاعة السينما المظلمة، بينما تستعد الشاشة الكبيرة أمامه لعرض الفيلم، كان هناك ينظر مشدوها لهذا العالم الكبير، ثم فجأة، انتقل إلى بُعد آخر وزمن آخر لا يعرف عنه شيئا، لكنه لم يعبأ بالعودة بعد نهاية تلك الرحلة، وفي الليل عندما اختلى بنفسه كان يتخيل صور الممثلين على الملصقات الدعائية للأفلام (الأفيشات)، يخلق لهم عالما وحكاية متخيلة، من هم؟ وما حكايتهم؟ وهذا ما اعتدناه من أحمد خالد توفيق، أن يخلق لنا حكايات تبدأ من أقرب نقطة إلى قلبه.

 

“أشك فعلا في أن أي مخلوق على ظهر الأرض أحب فن السينما كما كنت في صباي”[1]

(أحمد خالد توفيق)

  

يعترف بطفولية أنه يحب السينما، وأن ذكرياته مع كل فيلم شاهده، وكل تذكرة سينما قطعها، وكل ملصق دعائي (أفيش) جديد يراه، هي الذكرى الأعز إلى قلبه؛ يقول: “السينما مكان تجلس فيه في الظلام تأكل السجق وتشاهد النازيين”، وهذا هو الانطباع الأول المحفور في ذاكرته عن طقس الذهاب إلى السينما الذي ورثه عن أبيه، ترتبط السينما عنده بشطائر السجق وبالأفلام الحربية التي كانت تعرضها السينما في مدينة طنطا وبالظلام الذي ينبثق منه كل شيء ونشاهد فيه الأفلام.

    

شاهدت مؤخرا فيلما..

بهذه الجملة يبدأ دكتور أحمد خالد توفيق مقالاته التي يحكي فيها عن فيلم شاهده وأعجبه، والاستهلال بسيط للغاية كأنه بداية قوس جديد يفتحه لسرد تجربة شائقة خاضها مؤخرا، السينما عنده ليست تسلية عابرة، بل عالم بأكمله يدخله مغمض العينين ويخرج منه بشخصيات وحكايات وظلال تتحرك في الظلام أمام شاشة العرض السينمائي. في البدء كان ولعه بالمحاربين والمسوخ والأشباح، ذات يوم حاول أن يمص دماء أخته تأثرا بمشاهدة لفيلم دراكولا[2]، وهو ما يفسره بأنه وقع في شباك الإيهام، فكان يظن أن ما يشاهده في الأفلام هو الواقع بعينه. تمر الأعوام ويكبر الفتى الصغير وتتقلص شاشة السينما إلى حجم شاشة التلفاز، يقول: “تشاهد الفيلم مسترخيا وأنت تتلذذ بتناول العشاء وتشرب مشروبا باردا وتدخن”[3]، طقس المشاهدة يتطور مع أحمد خالد توفيق وما زال مرتبطا عنده بالمتعة في أشهى صورها، جلسة مريحة ووجبة لذيذة وفيلم شائق ينسيه العالم من حوله، والإبهار ما زال يضوي من عينيه التي تأسرها الأفلام.

“لن تكف السينما عن محاولة جذبك لمغادرة بيتك، لكن ما يبقى في النهاية هو ماذا قال الفيلم وكيف تم تصويره وإخراجه، وماذا فعل الممثلون؟”

(أحمد خالد توفيق)

  

أفلام الحافظة الزرقاء (مواقع التواصل)

عام 2015 أصدر دكتور أحمد خالد توفيق كتاب “أفلام الحافظة الزرقاء”، وهو نوع جديد من كتاباته المنشورة الذي يتحدث فيه عن عالم السينما في سردية تغمرها نوستالجيا ساحرة لعلاقته بعالم السينما والأفلام. ينزعج أحمد خالد توفيق من لقب العرّاب[4]، لكنه لا يتنازل عن وصف نفسه بالعاشق، معادلة جديدة يضع فيها نفسه في مصاف العشاق والسينما هنا هي المعشوقة، يقول: “حبي للسينما عميق وقديم وصادق”، ما زال وصف الحب هو الرابط بينه وبينها، وفي “أفلام الحافظة الزرقاء” يصنف الأفلام التي أحبها إلى فئات، أفلام الرعب، الحرب، الخيال العلمي، وفي تصنيف شديد الجمال يصنف أفلاما أحبها بأنها أفلام الحب والحلم، دعونا نستعرضها معا. الكتاب مقسم إلى فصول، ولكل فيلم فصل، مع كل فقرة من فقرات الفصل يشير أحمد خالد توفيق إلى مقاطع من الأفلام لنشاهدها بعد أن رتبها لنا خصيصا، فالكتاب معه أسطوانة لتشاهد عليها المشاهد التي يحدثنا عنها، إنه يتفاعل معنا ويشاركنا اللحظات نفسها بشكل مرئي كأننا نراها معه بعيونه.

“السینما فن جمع في أناقة بین فنون المسرح والتصوير والموسیقا.. الفن الوحید الذي يمكنه أن يحمل رسالة ثقیلة للناس يستمتعون وھم يتلقونھا.. لست أعلن سرا إذا قلت إنني أحببت الأدب لأنه يقربني من ذلك العالم الساحر. مادمت لن أقدم فیلما سأقدم كلمات”

(أحمد خالد توفيق)

سائق التاكسي (Taxi Driver)
سائق التاكسي (taxi driver) (مواقع التواصل)

يقضي ترافيس الليل بعيون سُلب منها النوم، لا هو حزين ولا هو سعيد، يجوب في شوارع المدينة بسيارة التاكسي لأنه مصاب بالأرق والوحدة، يراقب فتاة معجبا بها ويذهب إلى السينما بانتظام لأنه يحبها. يصف أحمد خالد توفيق ترافيس بأنه غير مستقر نفسيا وأن مدينة نيويورك آثمة وظالمة، وهذا الشاب تتلطخ أحلامه في وحل المدينة. ربما لم تكن أحلامه خيالية بقدر ما كانت تائهة في الزحام لا يعرفها ويسعى بتباطؤ للوصول إليها، لكنه بعد ما رآه يحدث في ليل نيويورك وشوارعها أراد أن يفعل شيئا ما لا يعرفه، أن يفرغ طلقات الرصاص التي يعتمر بها بمسدسه، لكنه لا يعرف كيف سيفعلها وفيمن سيفرغها؟

في واحدة من مقالات أحمد خالد توفيق تحدث عن شخصية خيالية “سيد الششماوي” الذي يمارس “اهتبال الفرص”[5]، هو رجل بسيط يجري في دائرة الحياة المعقدة لا يهتم بشيء لكنه يريد فرصة، أي فرصة، لكن الفرصة تلك لا يريدها طيبة، أراد أن ينزع من جسده رداء البراءة ليرتشي أو يسرق أي شيء، لا يهم، المهم أن يفعل شيئا ويتجاوز الخطوط الحمراء ولو مرة في حياته، في النهاية ينجح الششماوي في سرقة شطيرة من درج مديره ويخرج سعيدا بفعل تافه لكنه أكسبه معنى جديدا يفتقده. لا يذكرنا الششماوي بشخصية ترافيس في الفيلم، لكن المشترك بينهما أن إثبات وتحقيق الذات بفعل شيطاني هو الحلم الذي لم يكن يعرف الاثنان أنه المبتغى الذي ينشدانه، عندما يختلي الإنسان بنفسه على الأغلب تخرج منه أفكار سيندم عليها، يشترك الششماوي وترافيس في الوحدة الطويلة؛ يقول أحمد خالد توفيق إن الحل الوحيد للمشاكل النفسية هو ألا تكون وحيدا[6].

رجل وامرأة (Un homme et une femme)
رجل وامرأة (un homme et une femme) (مواقع التواصل)

لم يشاهد أحمد خالد توفيق الفيلم، بل حلم به، قرأ ما كتبه يوسف شريف رزق الله عنه في مجلة السينما والتليفزيون، ولأن الفيلم رومانسي وبه مشاهد لا يليق أن يشاهدها فتية في سِنّه رفض والده أن يذهب الابن الصغير لمشاهدة الفيلم، ولأن خياله يحوّل الكلمات إلى صور راح أحمد يتخيل الفيلم ويرسمه مشهدا مشهدا على دفتر صغير، يقول أحمد لاحقا في آخر حوار تلفزيوني أُجري معه قبل وفاته: “أعتقد أن بداخلي مخرجا سينمائيا”.

فيلم “رجل وامرأة” يختلف عن ذائقة أحمد خالد توفيق السينمائية، فالفيلم أوروبي بمواصفات اللغة السينمائية الفرنسية التي تقدم قصة حب هادئة دون صراخ أو ضجيج أو السينما الأميركية، يصف دكتور أحمد الفيلم بأنه كالزهرة التي تنبت فروعها، لا أحد يهتم بمحاولة فهم كيف نمت تلك الزهرة، فقط نستمتع بشم رائحتها، وهذا هو كل ما في الأمر، الفيلم بسيط في فكرته، فهو يحكي قصة أرمل وأرملة شابين يلتقيان ويحبان بعضهما، قصة جميلة لا تحتاج إلى أكثر من أن تُروى بلغة شاعرية فحسب، في كتابه “قصاصات قابلة للحرق” يقول دكتور أحمد: “ليتنا أنا وأنتِ جئنا العالم قبل اختراع التلفزيون والسينما لنعرف هل هذا حب حقا أم أننا نتقمص ما نراه؟”، هكذا كان يستمد مفردات الحب من فيلم سينمائي كـ “رجل وامرأة” حيث العشق الهادئ والمشاعر البكر التي تقدم لنا الحب على أطباق من ذهب، هذه الشاشة وهبت دكتور أحمد كل معاني الحياة، تماما مثل الكتب، هذا الصبي الذي تخيل قصة الحب تلك ورسمها في ذهنه سيكبر ويقدم لنا قصة حب نعتبرها أسطورية بين ماجي ورفعت إسماعيل -بطل سلسلة ما وراء الطبيعة- ستستمر حتى تحترق النجوم.

ما وراء الطبيعة (مواقع التواصل)

يسأل القراء دوما لماذا لم يتزوج رفعت بماجي؟ في واحدة من مقالاته يقول دكتور أحمد إنه ليس مولعا بقصص الحب التي يكون الشيوخ فيها أبطالا[7]، فهو يرى الحب وولعه في أجساد الشباب، ويحزنه ألا يقع شاب وفتاة في الحب لأي اعتبارات، ربما لهذا أحب فيلم “رجل وامرأة”، لأنه في النهاية تغلب البطل والبطلة على شعورهما بالذنب تجاه زوجيهما المتوفيين لتنشأ قصة حب جديدة تعيد من جديد أمل الحب في قلبيهما وقلب المشاهدين، وقلب أحمد.

دائما ما يحكي لنا أحمد خالد توفيق عن ذكرياته وأحلامه ومشاعره وأشباحه، كأننا نلتف حوله في دائرة يترأسها هو، يخرج من جعبته الحكايات التي لا تنتهي، سيخبرنا عن شعوره بالاختناق في زحام ميدان رمسيس، وعن دخان السجائر الذي كان يحاوطه في قاعة السينما بطنطا وهو طفل صغير يشاهد فيلما حربيا عن النازية، سيحدثنا عن الخوف والأمل والألم، عن السعادة غير المكتملة وخفقان القلب من فرط الحب، سيعطينا في النهاية كبسولة صغيرة بها مفاتيح لأبواب سنعرف لاحقا أننا سنطرقها، ولأننا صغار نأنس بما يحكيه، وما زلنا إلى الآن صغارا ننصت إليه ونرجو أن يتوقف الزمن بنا وبه في تلك الدائرة ليستمر الحلم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.