الباحثة المغربية العالية ماء العينين: التبراع صوت الشعر النسائي الحساني لا يحق للرجال كتابته.

تتميز المرأة الصحراوية في المغرب عن غيرها من النساء بالكثير من الصفات، إذ لديها طقوسها الخاصة في العيش والحياة، هذا إلى جانب طرقها للتعبير عما يعتمل بداخلها والبوح بعواطفها، في تمرد على تقاليد المجتمعات الصحراوية المحافظة التي وإن حظيت فيها المرأة بمكانة خاصة فإنه لا يمكن لها الجهر بحبها والتغزل بمحبوبها، إلا بشكل متنكر وعبر وسيلة أدبية تعرف بـ“التبراع” وهو نوع شعري له خصوصية بارزة.

الديوان الشعري للمرأة العربية يشكل إضاءة ثرية لتجلياتها الإنسانية والفنية، ويرتبط ارتباطا وثيقا بالسياقات الاجتماعية والثقافية، وقد حفل المشهد الشعري القديم والحديث معا بأسماء وتجارب شعرية نسائية شكلت علامات مهمة في مسيرة الشعر العربي كله وتطوراته، وهذه الدراسة “التبراع.. نساءٌ على أجنحة الشعر” للباحثة المغربية العالية ماء العينين.

تمثل هذه الدراسة رؤية عميقة لإبداع المرأة المغربية الحسانية الخاص والذي يطلق عليه “التبراع”، حيث تتساءل عن مدى عمق العلاقة بين المرأة وشعرها والتي جعلت منه حاملا لفكرها وآرائها ووسيلتها العميقة للبوح والتعبير عما يتفاعل في أعماقها، حتى أصبح بابا مشرعا للدخول إلى عالم ملتبس ومحاط بسياج العادات والتقاليد.

بلاد البيضان:

بداية ترى العالية ماء العينين أن الحديث عن الشعر النسائي الحساني يحتم قبل كل شيء تحديد بعض المنطلقات التي تساعد على إضاءة الطريق أمام المتلقي، للاقتراب من هذا الابداع النسائي الخاص والغوص في عوالمه، كالتعريف بالشخصية التاريخية والاجتماعية للمرأة المبدعة، وتحديد الإطار المكاني الذي يشكل فضاء هذه الدراسة، والإجابة عن بعض الأسئلة التي تطرح نفسها من قبيل الأسباب التي تكمن في عدم تخصيص منطقة جغرافية محددة بالبحث وتجاهل الحدود السياسية الحالية؟.

وتشير إلى أن اختيار الحديث عن هذا الشعر النسائي باعتباره إبداعا “حسانيا” يحيل على الحسانية التي هي لغة تواصل وثقافة ونمط عيش. أي أننا نتحرك في فضاء مكاني/جغرافي يحصر أو يشمل الناطقين بالحسانية، وهو مجال شاسع ومترامي الأطراف.

وقد عرفت هذه المنطقة تسميات كثيرة من مصادر عدة تتوزع بين الرحالة العرب والأجانب والعسكريين، واعتمدت على قراءات متنوعة منها ما هو جغرافي أو إثني، أو ربطها بحاضرة أو معلمة حضارية. وأيضا استعمالات سياسية خصوصا من لدن المستعمرين خدمة لمصالحهم التوسعية في المنطقة “إلا أن التسمية التي عرفت بها البلاد تظل هي بلاد البيضان كمقابل لبلاد السودان التي كانت متداولة في الأدبيات التاريخية والجغرافية. ولكن مفهوم البيضان اتخذ بعدا ثقافية أكثر مما ارتبط بالعرق أو بلون البشرة، فالبيضاني هو الشخص الذي يتحدث اللهجة الحسانية ويرتدي زيا مميزا وله هوية ثقافية ـ بالمعنى الأنثربولوجي ـ تميزه عن الساكنة المجاورة. ويمتد المجال الثقافي البيضاني من وادي نون شمالا إلى نهر السنغال جنوبا. ومن المحيط الأطلسي غربا إلى مالي شرقا”.

وتوضح أن الأرضية التي يمكن الانطلاق منها للإبحار في عالم “التبراع”، خصبة ومتنوعة، وتتوزع ما بين الأدب عموما والشعر النسائي خصوصا بوجهيه الفصيح والشفوي، بالإضافة إلى الإطار الاجتماعي الذي تتحرك فيه الشاعرة المرأة في مجتمع عربي إسلامي ذكوري، وقد نغوص إلى أبعد من ذلك للحديث عن المكونات التاريخية والاجتماعية والثقافية للمنطقة عموما.

ركزت العالية على جانبين أولهما الإبداع النسائي في الشعر الشعبي أو الشفوي عموما، انطلاقا من تجربتين إنسانيتين إبداعيتين واحدة محلية وأخرى إنسانية، ويتعلق الأمر بعروبيات فاس، وشعر نساء البشتون. والثانية المرأة في فضاء الثقافة الحسانية وهنا تلقي الضوء على المبدعة باعتبارها إنسانة وعنصرا اجتماعيا، وبالتالي تجيب عن سؤال: من هي هذه المرأة التي أبدعت ولازالت شعرها الخاص؟ ثم ما هي طبيعة علاقتها بالمجتمع الذي ترعرعت وشبت داخله؟ طبعا هنا المرأة في إطارها البدوي والقبلي التقليدي بعيدا عن القوانين الحديثة.

شعر للنساء فقط

ترى ماء العينين أن الرباعيات الفارسية أو ما يعرف بـ”العروبيات”، هي أشعار نسائية خالصة خاصة بالمرأة في مدينة فاس المغربية. وكانت العروبيات تنشدن بالخصوص في النزهات التي تقيمها العائلات الفاسية أيام الربيع في البساتين التي تحيط بمدينة فاس، حيث تعلق في الأشجار أرجوحات (مطايشات) وتأخذ كل فتاة “تطيش” فيها بدورها وتغني هي أو النساء الواقفات حولها عروبيات إما من نظمهن أو من محفوظهن.

وتبين الباحثة أن موضوعات هذه الأشعار تدور كلها حول عواطف النساء وأحاسيسهن المتنوعة. ولابد من الإشارة هنا إلى الدور الكبير الذي قام به محمد الفاسي في سبيل جمع وحفظ هذا الإبداع الشفوي الذي كان معرضا للضياع، فقد عاين منذ صغره ارتباط الناس بهذه الأشعار، وأدرك بفطنة المهموم بتراث وقيم بلده، الثقافية والحضارية، أنه يجب توثيق أكبر عدد من هذه الأشعار، التي كانت تبدو متاحة في زمنها، لكنها معرضة للنسيان مع مرور الوقت كحالة الإبداع الشفوي عموما، وقد جمعها ونشرها.

وتوضح ماء العينين أن النظام الاجتماعي العام الذي بني عليه المجتمع الحساني، يتميز بارتباط مكانة المرأة والرجل، بالمجموعة القبلية التي ينتميان إليها. فمن المعروف أن المجتمع الحساني أو البيضاني ينقسم إلى ثلاث مجموعات كبرى هي: حسان ـ الزوايا ـ اللحمة أو زناكة. وهذا التقسيم يغلب عليه الطابع الوظيفي، إذ تختص كل مجموعة قبلية بمهام معينة، فقبائل حسان تمثل السلطة السياسية والعسكرية، ويطلق عليها قبائل السلاح. أما الزوايا فهي تختص بالجانب العلمي والديني، أي أنها تتكلف بالتأطير التربوي وتعليم الناس شؤون دينهم، كما يتكلفون بكل المهام الدينية من إفتاء وتنظيم للأمور الشرعية. أما الزناكة أو اللحمة فتضم القبائل المستضعفة أو الغارمة التي تحتاج إلى حماية والتي غالبا ما تقدمها لهم قبائل حسان.

و تؤكد على أن المرأة كالرجل يسري عليها قوانين الانتماء لهذه الطبقة أو تلك. فهي عند حسان صاحبة مال وجاه وسلطة وحضور اجتماعي فاعل. وعند الزوايا رغم محيطها الديني والأخلاقي، إلا أنها تقوم بدورها الديني والتربوي والتعليمي، وعند الصناع صانعة خبيرة تساهم في الحركة الاقتصادية بمجهودها اليدوي كالرجل تماما، وعند المغنين تتعلم آداب وفنون الطرب الحساني منذ الصغر لكي تمتهن مهنة آبائها أي الغناء.

وتشير ماء العينين إلى أن “التبراع” هو نوع من الشعر الخاص بالنساء الحسانيات، وليس شعرهن عموما كما قد يتبادر إلى الذهن، أو كما هو شائع في بعض الكتابات الصحافية، فالشاعرة الحسانية كرفيقها الرجل تبدع في كل أنواع الشعر الحساني، المعروف بـ “لَغْنَ” باختلاف مواضيعه وإيقاعاته، ولكن الشاعرة تتميز بكونها تنظم شعرا خاصا بها، وهو “التبراع” الذي لا يحق للرجل أن يبدع فيه.

وبالرجوع إلى أي مصدر أو مرجع شفوي أو مكتب عن الشعر الحساني المعروف بـ “لَغْنَ” نجد مجموعة من القواعد والتعريفات الثابتة تخص القصيدة الحسانية وأوزانها وأبحرها الموسيقية، ومن أهم هذه القواعد اعتبار “الكاف” أصغر وحدة شعرية في القصيدة الحسانية، تليها “الطلعة” وأخيرا “التهيدينة”.

وتؤكد الباحثة أن الشعر الشعبي الحساني لم يلق عناية واهتماما إلا في زمن متأخر مع الدراسات الحديثة، فنحن إذا في إطار سوسيوثقافي، نتعامل بحذر شديد مع هذا المكون الإبداعي للشخصية الحسانية. لهذا لا نستغرب كثيرا عدم الاهتمام بالشعر النسائي والتبراع منه على وجه الخصوص، في تلك الدراسات التي بدأت خاطفة ومختصرة، والتي تكاد تجمع على أن “الكاف” هو أصغر وحدة شعرية في “لَغْنَ” في تجاهل تام للتبريعة المكونة من شطرين فقط. حتى أن الباحث أحمد مسكة كان ينظر إلى قصر التبريعة كحاجز أو مانع دون وصولها إلى أن تصبح جنا إبداعيا كبيرا، رغم أنه يعترف بأنه يحتوي على معان وأشياء جميلة وخيال مدهش ويكون عميقا أحيانا رغم قلة كلماته.

 

من المغالطة الحكم على “التبراع” بأنه مجرد غزل نسائي في الرجل فالنماذج المدروسة أكدت ثراء وتنوع موضوعاته

تتساءل ماء العينين كيف عبرت المرأة الحسانية الشاعرة عن الحب في التبراع؟ هل موضوع الحب كان خالصا لذاتها؟ هل تأثرت الشاعرة الحسانية بأشكال الغزل الذي كان سائدا في الأدب الفصيح أو العالم؟ هل انزاح التبراع عن موضوع الحب إلى اتجاهات أخرى؟

وتقول “بالرجوع إلى المتن الذي جمعناه والذي يتجاوز المئتي تبريعة متنوعة، أحاطت بكل المعاني التي تناولها التبراع، فقد وقفنا على خصائص في المضمون والشكل والإيقاع”.

وتوقفت الباحثة على المضامين التي تتركز بالأساس على موضوع الحب، ومنها أولا التعبير عن حالة عاطفية مجردة أقرب إلى العذرية وإلى الحوار مع الذات، بحيث نشعر أننا أمام الحب كإحساس خاص لا ينشد مقابلا، ولا يطلب الاعتراف به.

وتذكر قول الشاعرة “وأنا فؤادي… طاري لشيء ماه عادي”. والفتاة تشعر بأن فؤادها طرأ عليه أمر غريب (الإشارة إلى الحب) ودائما في نفس الإطار، أي الإحساس بعاطفة الحب التي تغزو القلب في أول تجربة: “ونبان ذا لعام… تعلمنا معنى الغرام” (يبدو أننا هذا العام تعلمنا معنى الغرام).

وثانيا الحب تجربة عاطفية واقعية، وتظهر في الاعتراف أو الجهر بالحب بأسلوب مباشر وواضح مع الحديث عن التجربة وآثارها. في هذه المرحلة تبدي الشاعرة رغبة أكبر في تجاوز الإطار الخجول، وقد تحمل في طياته بدايات ثورة على القيم والقيود الاجتماعية. ويمكن الحديث عن أربعة محاور أساسية وحاضرة بشكل لافت لتأثيث التجربة العاطفية كعلاقة فعلية قائمة بين الشاعرة والمحبوب، منها الإشارات الواضحة إلى تمني لقاء الحبيب التي تتعدى مجرد اللقاء إلى الوصال في أشكاله الحميمية:

“وإن شنواس… دونو لبحر عوم كاسي” (ماذا أفعل وحبيبي دونه بحر تصعب السباحة فيه). أو “يا خيت آمشي… راه لبحر مادنو شي” (يا أختي اذهبي فإن تجاوز البحر ليس بالأمر المستحيل أو الصعب).

ومنها أيضا التجارب العاطفية وما يصاحبها من معاناة تلزم المحبين بالصبر: “ولاَّ صبرا يالبال… ذا لتبع مشَّيْشر مزَّال” (اصبر يا قلبي فحبيبك ما زال غرا).

العاشقة تحث نفسها على الصبر أمام حبيب ما زال يتصرف كالأطفال. وهذا يعني أننا هنا أمام تجربة عاطفية وعلاقة قائمة بكل ما تحمله من معاناة ومشاكل.

وثالثاـ التذكر والحنين بما فيه من نوستالجيا أو رغبة في استعادة زمن له وقعه وتأثيره على النفس. أو “أشواش” بالحسانية، ومعناه قريب من التشويش الذي يحدثه التذكر والحنين في الروح.

وهو معنى أصيل في الثقافة الحسانية ومرتبط أشد الارتباط بالشعر والطرب. خصوصا ما يتعلق منه بالغزل.. تقول الشاعرة: “والماضي خليه… يكان الله يفرّج فيه” (دع عنك التفكير في الماضي لعل الله يقضي بالفرج).

الأرضية التي يمكن الانطلاق منها في عالم “التبراع”، خصبة ومتنوعة، وتتوزع ما بين الأدب عموما والشعر النسائي خصوصا.

الخطاب موجه إلى الذات/الأنا، يدعونا إلى التوقف عن الحنين إلى الماضي، ويحمل الرجاء في الله أن يخفف كربتها. هذا الارتباط بالماضي حاضر في التبراع كمحرك للحنين: “والماضي نهواه…. يحرّك بيَّ لماضي مغلاه” (أهوى الماضي، تبا لي كم أهواه).

وتؤكد العالية أنه من المغالطة الحكم على “التبراع” بأنه مجرد غزل نسائي في الرجل. فالنماذج المدروسة أكدت لنا ثراء وتنوع موضوعاته، وإن كان الطابع الأساسي هو العاطفة. فقد وقفنا على أن “التبراع” كصورة رومانسية وأحاسيس يغلب عليها طابع المعاناة والألم. في إطار يبدو أقرب إلى الغزل العذري كما عرفناه في تراثنا العربي القديم.

كما تقول “رأينا نماذج تجاوزت هذا الإطار الرومانسي، إلى البحث أو التطلع إلى شكل واقعي ومحدد للعلاقة مع الآخر. بالنسبة إلى النماذج التي يغلب عليها طابع الحنين والتأمل، وأحيانا الاستغفار فقد تحدثنا عن عقدة الذنب التي تشعر بها المرأة حيال رغبتها في الانطلاق والتغبير عن ذاتها بحرية أكبر، لذلك فهي غالبا ما تعود إلى نفسها، لكي تطلب من الله المغفرة على ما تعتبره أخطاء في حق نفسها ومجتمعها ودينها”.

وتشدد ماء العينين على أن موضوعات “التبراع” لا تقتصر دائما على الغزل، رغم أنه الجزء الأساسي والأكبر، وتشير إلى أن “التبراع” اهتم أيضا بمواضيع أخرى كشفت عن تفاعل المرأة مع ما يحدث في العالم العربي من مستجدات مؤلمة في عمومها، وكأن المرأة تريد أن تبعث رسالة تقول فيها إن الحب الذي هو المحرك الأساسي لشعرها، ليس بالضرورة حب الرجل فقط، بل حب الوطن والانتماء القومي والإسلامي والإنساني، من أشد أنواع الحب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.