هذا إنكار من اللّه على المشركين الذين عبدوا مع اللّه غيره من الأنداد والأصنام والأوثان، وهي مخلوقة للّه مربوبة مصنوعة، لا تملك شيئاً من الأمر، ولا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تنتصر لعابديها، بل هي جماد لا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر عابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم، ولهذا قال: { أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون} أي أتشركون به من المعبودات ما لا يخلق شيئاً ولا يستطيع ذلك، كقوله تعالى: { إن الذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنفذوه منه ضعف الطالب والمطلوب} أخبر تعالى أن آلهتهم لو اجتمعوا كلهم ما استطاعوا خلق ذبابة، بل لو سلبتهم الذبابة شيئاً من حقير المطاعم وطارت لما استطاعوا إنقاذه منها، فمن هذه صفته وحاله كيف يعبد ليرزق ويستنصر؟ ولهذا قال تعالى: { لا يخلقون شيئا وهم يخلقون} أي بل هم مخلقون مصنوعون كما قال الخليل: { أتعبدون ما تنحتون} الآية، ثم قال تعالى: { ولا يستطيعون لهم نصرا} أي لعابديهم { ولا أنفسهم ينصرون} يعني ولا لأنفسهم ينصرون ممن أرادهم بسوء، كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام يكسر أصنام قومه ويهينها غاية الإهانة كما أخبر تعالى عنه في قوله: { فراغ عليهم ضربا باليمين} ، وقال تعالى: { فجعلهم جذادا إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون} ، وكما كان معاذ بن عمرو بن الجموح و معاذ بن جبل رضي اللّه عنهما، وكانا شابين قد أسلما لما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة، فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطباً للأرامل، ليعتبر قومهما بذلك، ليرتؤوا لأنفسهم فكان لعمرو بن الجموح، وكان سيداً في قومه، صنم يعبده ويطيبه، فكانا يجيئان في الليل فينكسانه على رأسه، ويلطخانه بالعذرة، فيجيء عمرو بن الجموح فيرى ما صنع به، فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفاً ويقول له: انتصر، ثم يعودان لمثل ذلك ويعود إلى صنيعه أيضاً، حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت، ودلياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء عمرو بن الجموح، ورأى ذلك نظر، فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل وقال: تاللّه لو كنت إلهاً مستدن ** لم تك والكلب جميعاً في قرن ثم أسلم فحسن إسلامه، وقتل يوم أحد شهيداً رضي اللّه عنه وأرضاه وجعل جنة الفردوس مأواه. وقوله: { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم} الآية، يعني أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها، وسواء لديها من دعاها ومن دحاها كما قال إبراهيم: { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً} ، ثم ذكر تعالى أنها عبيد مثل عابديها أي مخلوقات مثلهم، بل الأناس أكمل منها، لأنها تسمع وتبصر وتبطش، وتلك لا تفعل شيئاً من ذلك. وقوله تعالى: { قل ادعوا شركاءكم} الآية، أي استنصروا بها عليَّ فلا تؤخروني طرفة عين واجهدوا جهدكم، { إن وليي اللّه الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} أي اللّه حسبي وكافيني وهو نصيري وعليه متكلي وإليه ألجأ، وهو وليي في الدنيا والآخرة وهو ولي كل صالح بعدي، وهذا كما قال هود عليه السلام: { إني توكلت على اللّه ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم} ، وكقول الخليل: { أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} الآيات، وكقوله لأبيه وقومه: { إنني برآء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين} ، وقوله: { والذين تدعون من دونه} إلى آخر الآية؛ مؤكد لما تقدم إلا أنه بصيغة الخطاب وذاك بصيغة الغيبة، ولهذا قال: { لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون} ، وقوله: { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} ، كقوله تعالى: { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم} الآية، وقوله: { وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} ، إنما قال: { ينظرون إليك} أي يقابلونك بعيون مصورة كأنها ناظرة وهي جماد، ولهذا عاملهم معاملة من يعقل لأنها على صور مصورة كالإنسان وتراهم ينظرون إليك، فعبر عنها بضمير من يعقل، وقال السدي: المراد بهذا المشركون، والأول أولى، وهو اختيار ابن جرير.