بقلم :بشرى عبدالدائم
قد يعتقد البعض أن السياسة لا يمكن ممارستها إلا بالكيل بمكيالين : مكيال يتم به إثارة مشاعر الآخرين حيث يراد من وراء ذلك استدرار عطف المريدين ، واستمالتهم كي يساندوا أفكارهم و ينخرطوا معهم في مسيرة نضالاتهم بهدف نشرها حتى تتداول بين الناس و يشتهر روادها، و الأمرهنا مرتبط بالأساس بما في خطاباتهم من حمولة قيمية ،و ما تتبناه من شعارات ترمز في جوهرها لكل القيم الإنسانية و الأخلاقية ،و ما يوازيها من حيث المنهاج و المقاصد و الأهداف النبيلة الرامية إلى بناء مجتمع متكامل تسوده العدالة والتضامن،و مكيال آخر و هو المناقض لكل وصف حيث يعتبر السياسي أنه لكي يحقق أهدافه السياسية من أجل الوصول إلى السلطة ،يجوز له ممارسة السياسة بالوسائل “الغير النبيلة “، فهو سياسي “ميكيافليي” بالمبدأ والممارسة ، و هي النظرية الخالصة لميكيافيلي في تعريف السياسة على أنها الوصول إلى الحكم أو السلطة بالإ ستناد على القوة و الإرتكازعلى الاستيلاء بالقوة والاحتفاظ بها بغض النظر عن أخلاقية الوسيلة، وهي حالة يستخدم السياسي كلما في وسعه لإبادة خصومه، وزعزعة كل أطروحات تنتمي لغيره ، لا يؤمن بالإختلاف إلا في حالات نادرة ، قناعة منه أن الأمر له مشروعيته ، و الغاية تبرر الوسيلة ،و من تم فالطريق للوصول إلى السلطة ليس دائما “مستقيما “و “بريئا”، و عليه فالسياسي دائما له مبرراته في كل محاولة لإثبات ذاته.
فالفاعل السياسي اليوم اختلفت مناهجه من حيث الترويج لخطابه، و هو ما لايمكن إعتباره تغييرا في المبادئ و القيم ، بل يمكن تجاوزا الحديث عن انحراف في مستويات الإقناع و التطبيق، فالقيم الكونية (كالحق ، والمساواة و العدالة والديمقراطية والمصداقية و…) لا تتغير في كل الخطابات السياسية ، لكنها قد تتباين من حيث الممارسات و تطبيقاتها على أرض الواقع بحسب النوايا ، فالهدف “النبيل”لا يختلف اثنان حول مفهومه اصطلاحيا و لغويا بحسب مستواهما الثقافي و إن تفاوت ،لكن قد يختلفان حول كنه و ماهية السبيل إلى تحقيقه و كيفية تصريفه ممارساتيا ، فهناك من يعتبر “الحق” في الاستئثار بمنصب معين أو الحق في استغلال مال عام هو من قبيل الهدف “النبيل”، لأن القصد من ذلك هو تحقيق غاية من أجلها يتم الوصول إلى تصريف المطالب الإجتماعية عمليا و واقعيا بحكم السلطة التي يخولها المال و المنصب، لذا نجد زعامات سياسية في بلادنا تتحدث في خطاباتها عن الديمقراطية و القيم الإنسانية في الوقت الذي لا تسمح بتحقيق ممارساتها داخل هيئاتها ، اعتقادا منها أن مجرد وجودها في مركز القيادة يسمح بتحقيق “امتياز اجتماعي” أو مطلبي لفئة معينة وهو ارتباط شيزوفريني يشوبه الكثير من “الأمراض السياسية “…وهناك من يحمل شعارات لا يستطيع تأمين مناضليه للوصول إليها مخافة أن يتم تبنيها في مواجهة استبداده بالقرار الحزبي الداخلي و محاسبته على ما فات.. و إن كانت الأمثلة متعددة في أحزابنا السياسية لكن المجال لا يسع لإحصاءها فهي واضحة و جلية لا تحتاج لتسليط الأضواء أو للكثير من التحليل السياسي حولها.
بيد أنه لا يكمن التطرق للحديث عن الفاعل السياسي دون الإشارة إلى الأخلاق السياسية ، فالسياسة في بعدها الأخلاقي ، تستدعي الوقوف عند الممارسة و السلوك السياسي و لا يمكن أن تكال بمكيالين ، بل إنها يجب أن تكون مجالا تتطابق فيه القناعات السياسية مع السلوكات السياسية ، فالمصداقية او النزاهة هي رأسمال الفاعل السياسي ،وهي معيار لا يجب تجاهله في اختيار الناخب للفاعل السياسي (المنتخب) ، وكذا المحدد لمدى تجاوبه مع الخطابات السياسية الذي ماهو إلا تجاوب مع الفاعل السياسي و تأكيد على الثقة المنوطة به و هو بالأساس دعم و مساندة للبرنامج العام للحزب السياسي ، و بالمقابل هو محدد أيضا لما نعرفه اليوم من ظاهرة العزوف السياسي الذي تتبناه شرائح عريضة من المجتمع ، بسبب انعدام ثقتها في الفاعل السياسي و رفضها المباشر لسلوكه و ممارسته السياسية البعيدة عن القيم و الأخلاق الاجتماعية .و هو الأمر الذي ينعكس سلبا على مردودية الفاعل السياسي داخل المجتمع باعتباره مؤطرا للمواطنين،و مرسخا لروح المواطنة التي تستدعي المساهمة في بناء المجتمع وذلك بالعمل على تكريس الديمقراطية التي تفرزها آلية الانتخاب و صناديق الإقتراع.
و الأكيد ،أن الفاعل السياسي في تجاذباته مع إرثه السياسي الثقيل و تراكماته -و هو في أغلبه- لم يستطع أن يستشعر في تعاملاته الظرفية ،وجود عقليات جديدة ومتطورة تتجاوب مع التحولات السوسيو-اقتصادية سواء إقلميا أو دوليا ، حيث لازال في مكيا…