عندما تنجح خطوات الإصلاح الاقتصادي في زيادة الاستثمارات وتخفيض عجز ميزانية الدولة ورفع معدلات النمو، ينتظر المرء في العادة تراجع نسبة الفقراء وتعزيز دور الطبقة الوسطى التي تعيش في رفاهية. غير أن الوضع في مصر يبدو على خلاف ذلك، لأن نسبة النمو لم تنجح في تقليص نسبة الفقر، بل زادت الوضع تعاسة.
آخر بيانات الجهاز المركزي المصري للإحصاء تفيد أن نسبة المصريين تحت خط الفقر ارتفعت بنحو 5 بالمائة، من قرابة 27.8 بالمائة عام 2015 إلى نحو 32.5 بالمائة عام 2018، وهي أعلى نسبة منذ نحو عقدين.
يشمل ذلك الأفراد الذين يقل دخلهم الشهري عن 45 دولارا في الشهر.
إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الذين يتقاضون شهريا بين 45 إلى مائتي دولار في الشهر ولا يعيشون حياة رغيدة يشكلون أكثر من ثلث المصريين على الأقل.
أما نسبة الفقراء الذين لا يستطيعوا توفير حاجاتهم الأساسية اليومية تزيد على الثلثين. السؤال المطروح، كيف يحصل ذلك في بلد وعد فيه الرئيس “عبد الفتاح السيسي” بالرفاهية من خلال تحسين مستواهم المعيشي بعد البدء بإصلاحات قاسية ومؤلمة، من أبرزها تعويم الجنيه المصري في خريف عام 2016؟ وبعد نحو ثلاث سنوات على ذلك هناك مؤشرات من مصادر متعددة مصرية ودولية تشير إلى أن ثمار ذلك بدأت بالظهور على أكثر من صعيد مثل تراجع معدلات التضخم وزيادة احتياطات العملات الصعبة إضافة إلى ارتفاع معدلات النمو بنسب تتراوح بين 3 إلى أكثر من 5 بالمائة خلال السنوات الثلاث الماضية.
غير أن بيانات الجهاز المركزي الأخيرة المتعلقة بمعدلات الفقر تدل على أن هذه الثمار لايتمتع بها غالبية المصريين، ولا يدل على ذلك ارتفاع معدلات الفقر وحسب، بل أيضا معدلات البطالة العالية رغم الإعلان عن مشاريع واستثمارات كبيرة برعاية الدولة في أكثر من منطقة في البلاد.
فإذا كانت ثمار الإصلاح لا تصل إلى الغالبية، فأين تذهب إذا؟ بداية لا بد من القول أن ارتفاع معدلات النمو العالية وثمار الإصلاح الأخرى جاءت بشكل رئيسي بفعل استثمارات حكومية في قناة السويس وقطاعي الغاز والنفط وقرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 12 مليار دولار، إضافة إلى قروض ومساعدات عربية وتعافي إيرادات السياحة بشكل ملحوظ. وقد تركزت الإيرادات والعوائد الناتجة عن ذلك في يد الدولة التي ضخت القسم الأكبر منها في مشاريع قومية تكلف مليارات الدولارات.
هدا وعلى الرغم من أهمية مشاريع كهذه على المدى الطويل، إلا أن مشكلتها تكمن في اعتمادها على كثافة رأس المال أكثر من اعتمادها على كثافة اليد العاملة. وهو الأمر الذي يفسر بشكل جزئي استمرار ارتفاع نسبة البطالة ومعها الفقر. ومن مشاكل مشاريع بتكاليف ضخمة كهذه، تسهيل عمليات الفساد واختلاس وغسيل الأمول في بلد ينخر فيه الفساد في مؤسسات الدولة والقطاع الخاص معا.
هنا يأتي دور تجار ووسطاء ورجال أعمال يستوردون مستلزمات البناء والتشييد والمواد الاستهلاكية اللازمة للسوق. ومن المعروف أن فئات من هؤلاء تتحكم بشكل واسع في سوق السلع استيرادا وتوزيعا وتسويقا.
إن الإصلاحات القاسية بشروط صندوق النقد الدولي والتي مضى عليها نحو 3 سنوات خفضت قيمة الجنيه إلى أكثر من مائة بالمائة إزاء الدولار الأمريكي، وهو الأمر الذي أدى إلى تآكل القوة الشرائية للرواتب والأجور في وقت تضاعفت فيه قيمة ثروات الفئات الغنية التي تملك العقارات والعملات الصعبة والأصول الأخرى. وزاد الطين بلة ارتفاع اسعار السلع الاستهلاكية التي يتم استيراد غالبيتها من الخارج بالدولار والعملات الصعبة الأخرى.
أما فيما يخص زيادة الأجور التي حصلت مؤخرا فقد جعلت الحد الأدنى للمرتبات الشهرية بحدود ألفي جنيه، أي حوالي 120 دولارا، فلا يمكن لها تعويض ارتفاع الأسعار وخفض الدعم عن السلع الأساسية بهدف ترك العرض والطلب يتحكم في اسعارها لاحقا.
كما شملت آخر حزمة من هذا الخفض أنواع البنزين التي ارتفعت اسعارها بنسب تتراوح بين 18 إلى نحو 23 بالمائة. ومع استمرار عملية الإصلاح على هذا المنوال فإن الوضع يسير نحو مزيد من تدهور القوة الشرائية لغالبية المصريين.