كيف تحاول فرنسا تغيير بوصلة إبادة الأقليات تجاه غيرها ؟
مجلة أصوات
محمد سليمان الزواوي .
وقالت وزارة الخارجية التركية في بيان إن “البرلمانات ليست لديها أي سلطة لتفسير التاريخ أو إصدار حكم عليه”، مضيفة أن النص “يشوّه أحداثاً تاريخية باسم مصالح سياسية”.
أثار هذا التصويت التساؤلات عن دوافعه وأهميته لنواب البرلمان الفرنسي، غير المختص، حسب بيان الخارجية التركية، ببحث الوقائع التاريخية، وهل تنطلق فرنسا أساساً من منطلقات أخلاقية عندما يتعلق الأمر بمعاناة الأقليات؟ وهل فرنسا، التي تلعب دور المُدافِع عن الطوائف الدينية المسيحية بالأساس، مؤهلة للعب ذلك الدور؟
وعند البحث عن دوافع ذلك التصويت فإن الدهشة ستزول بمجرد معرفة أن أقلية آشورية كلدانية تعيش في فرنسا يبلغ تعدادها نحو 16 ألف نسمة، يحتشد منهم 10 آلاف نسمة في ضاحية واحدة في باريس، أو دائرة انتخابية واحدة، وهي ضاحية سارسيل (Sarcelles) شمال العاصمة الفرنسية، وهي قوة تصويتية لا يستهان بها، ومن ثم فإن مسألة البحث والتفتيش في التاريخ قد لا تكون سوى مجرد سعي وراء مصالح انتخابية، ومقايضات بين الكتل الحزبية داخل البرلمان الفرنسي، إذ إن التاريخ يثبت لنا أنه كلما احتارت فرنسا، الدولة والأفراد، بين المصالح والقيم فإنها غالباً ما تختار مصالحها، وتغض الطرف وتنظر بعين واحدة إلى ما تعتبره صواباً، بالأحرى طبقاً لمصالحها ومصالح حلفائها.
ارتكبت فرنسا مذابح عدة في البلدان التي احتلتها، وما كانت شعارات الحرية والإخاء والمساواة، شعارات الثورة الفرنسية، إلا ستار دخان يخفي وراءه نهباً ممنهجاً للثروات في مستعمراتها السابقة، لم تتوانَ فيه عن ذبح الأبرياء دون التفرقة بين العرق والجنس والدين والمذهب، فقد قتلت في تاريخ احتلالها للجزائر البالغ 132 سنة أكثر من ستة ملايين جزائري، منهم مليون ونصف مليون في فترة ثورة التحرير الجزائرية، إذ بدأت مجازرها بقتل 4 آلاف مصلٍّ في مسجد كتشاوة حيث أراد الحاكم الفرنسي الدوق دو روفيغو أن يحوله إلى كنيسة، فهدمه على المعتصمين فيه، دون أن يُظهِر أي تعاطف هو ولا حكومته تجاه المصلين ولا المدنيين العزّل. كما كانت فرنسا راعية أكبر مذبحة في تاريخ إفريقيا في رواندا بين الهوتو والتوتسي بأسلحتها ودعمها لحكومة الهوتو واستثمارها في الدم، تلك المذبحة التي اعترفت الأمم المتحدة بكونها إبادة جماعية، إذ أسفرت عن مقتل 800 ألف رواندي.
وعلى الرغم من شعار “الحرية” الذي رفعته فرنسا في أعقاب الثورة الفرنسية، فإن فرنسا، التي تنظر بعين واحدة إلى مصالحها، قتلت أكثر من مليوني إفريقي أرادوا التحرر من الاحتلال الفرنسي لهم، إذ جابهتهم بالعنف المفرط والقتل الممنهج. ومن المؤكد أن نواب البرلمان الفرنسي وهم يتحدثون عن مصطلح “الإبادة الجماعية”، وهو مصطلح شائك عرّفته الأمم المتحدة بأنه “قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية”، تغاضوا، أو نظروا بعين واحدة، بشأن التفتيش في ماضيهم، لكنهم من أجل مصالحهم الانتخابية اتجهوا إلى تاريخ الدولة العثمانية، وذلك لأهداف يبدو من ضمنها إرضاء اليمين المتطرف وركوب موجة الإسلاموفوبيا، وكما قال وزير الخارجية التركي السابق مولود تشاووش أوغلو: “إن فرنسا آخر دولة يمكنها إعطاء درس لتركيا في الإبادة والتاريخ”.
ورجوعاً إلى التاريخ، كانت الخلافة العثمانية نداً لفرنسا في تلك الفترة، حيث كانت باريس تعتبر نفسها حامية للأقليات المسيحية في الشرق، في حين تدحض دلائل الواقع الحالي الرواية الفرنسية، إذ إنّ الأقليات الدينية لا تزال تعيش في تركيا وفي غيرها من بلدان الشرق، بل إنّ أعداد الآشوريين الكلدانيين في تركيا لا تزال أعلى من أعدادهم في فرنسا، إذ اختار ما يقارب خمسين ألفاً منهم العيش في تركيا، مثلما اختاروا البقاء في مناطقهم التاريخية في العراق وسوريا وإيران وغيرها، بما يدحض فكرة “الإبادة الجماعية”، التي تؤدي بالضرورة إلى قطع دابر المجموعة العرقية أو تفرقها أو إجبارها على الهجرة.
كما تجاهل نواب البرلمان الفرنسي، في أثناء بحثهم التاريخي بعين واحدة، حقيقة أن بريطانيا، حسب الأمم المتحدة، وعدت الآشوريين بالحكم الذاتي إذا ما تعاونوا معها ضد الدولة العثمانية. والتعاون مع العدو في زمن الحرب هو خيانة عظمى لا جزاء لها إلا الإعدام في كل الشرائع والدساتير، وعلى الرغم من ذلك فإنهم لا يزالون يعيشون حول كنائسهم في مناطق عدة في منطقة ما بين النهرين، التي تحتوي الآن على أجزاء من تركيا والعراق، وهي المناطق التاريخية للآشوريين الكلدان.
ومع زيادة أعداد الأقليات المسيحية التي لجأت إلى فرنسا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فإن تكتلاهم الانتخابية باتت قوة لا يستهان بها، إذ يبلغ عدد الأرمن في باريس وليون ومرسيليا نحو 650 ألف نسمة، ومن ثم فإن مغازلة تلك الأقليات الدينية، وبينهم اليهود، باتت هدفاً رئيسياً للساسة الفرنسيين الطامحين إلى مقاعد في البرلمان، وأصبحت عملية النبش في التاريخ مهمة روتينية لهم، فقد استطاعت الأقلية الأرمينية في فرنسا أن تنتزع قانوناً يجرم “إبادة الأرمن” بعقوبة السجن وغرامة 45 ألف يورو، على غرار قوانين معاداة السامية ورفض الهولوكوست، وهي كلها أحداث تاريخية مكانها البحث على أيدي المؤرخين المتخصصين، كما دعت إلى ذلك تركيا، بإنشاء لجنة لبحث تلك الأحداث، بدلاً من أن تتحول إلى مزايدات انتخابية انتهازية للأقليات في فرنسا.
كما أن الموقف الفرنسي الحالي من المذابح في غزة على يد الاحتلال الإسرائيلي يثبت فرضية عين فرنسا العوراء، التي لا تنظر إلا بعين واحدة فقط لمصالحها ومصالح الكيانات المرتبطة بها وبتاريخها، في حين تتجاهل المذابح الواضحة للعيان من قتل للأطفال والنساء والتهجير القسري وجرائم الحرب من تدمير المستشفيات واستهداف الأطقم الطبية، إذ رفضت على لسان خارجيتها اتهام إسرائيل في الدعوى أمام محكمة العدل الدولية التي رفعتها دولة جنوب إفريقيا، فقد قال وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه إنّ “اتهام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية هو تجاوز للعتبة الأخلاقية”، وكأن فرنسا هي التي تحدد ما العتبة الأخلاقية، وكأن قتل النساء والأطفال حتى لو لم يرقَ إلى درجة الإبادة فهو أمر مباح لدى العين الفرنسية يحق لها أن تدعمه وتدافع عنه.
إنّ تلك المواقف الفرنسية وغيرها من دول الغرب تثبت بما لا يدَع مجالاً للشك أن في القيادة العالمية ولدى “قادة العالم الحر” أزمة أخلاقية، وأن النظام العالمي الذي يديره المنتصرون بات محل اتهام وتشكيك، فلم يعُد نظاماً دولياً مبنياً على القواعد (Rule-Based International System)، وثبت أن الدول الكبرى تتلاعب في التاريخ كما تتلاعب في الجغرافيا، وأن ميزان القيم والعدل لم يعُد، وربما لم يكن، واحداً في أي وقت من الأوقات.