كلما كتبت مقالة انتقد فيها أصحاب السعادة والفخامة في وطني، أو انتقد -بناء على التقارير الدولية والمحلية- ما آلت إليه الأوضاع في المغرب، خرجت الأقلام المأجورة تهاجمني: منهم من يتهمني بخدمة الأجندات الأجنبية، ومنهم من يسفّه مقالاتي، على اعتبار أنني أعيش على أوهام الماضي وأن كتاباتي مليئة بالمزايدات والإشاعات، ومنهم من يصنّفني في خانة اليساريين العدميين الذين لا يزالون متشبثين بالخطابات اليسارية البائدة التي أكل الدهر عليه وشرب، (هكذا كما قال أحدهم في أحد التعليقات) ومنهم من يدعوني إلى إزالة النظارة السوداء، لكي أرى الحقيقة ناصعة، بأن المغرب قد تقدّم خطوات إلى الأمام وأصبح من البلدان التي يُشار إليها بالبنان.
كتبتُ عن اللصوص الكبار، وسلّطت الضوء في مقالات متنوعة، على ملفات الفساد والجرائم المالية التي تستنزف الناتج الداخلي الخام، بسبب الرشوة والزبونية والتلاعب في الصفقات العمومية، وطالبنا من هذا المنبر، بشنّ حملات تطهير ضد الفساد والمفسدين، وتقديمهم إلى العدالة.
وكتبت عن القضاء ودوره في استفحال الفساد، وعن تفشي الرشوة بشكل كبير في صفوف قضاة المملكة، الذين يُصدرون أحكامهم طبقا للتعليمات التي تُملى عليهم، وليس طبقا لما يتضمنه القانون المغربي من عقوبات في حق المتورطين في قضايا الفساد واختلاس المال العام.
تناولتُ كذلك واقع الأحزاب والنقابات ودورها في تغوّل الفساد، وبأنها أصبحت ملاذا للمفسدين والانتهازيين، الذي اتّخذوا من تلك الأحزاب مطية لتحقيق مآربهم الشخصية، ومصالحهم الخاصة، وذلك عن طريق توجيه القرارات والسياسات والتشريعات لتحقيق تلك المصالح، ونبّهنا إلى أن ذلك يمثل تحديا خطيرا في وجه التنمية التي ينشدها الشعب المغربي.
وفي نفس السياق تناولت العلاقة المباشرة، وغير المباشرة للبرلمان المغربي في تقنين الفساد، وتامين المفسدين، حيث أبانت هذه المؤسسة عن عجز مزمنٍ في ممارسة مهامها الموكولة إليها دستوريا، وأشرنا إلى أن أجهزة الرقابة المرتبطة بالبرلمان لم تتمكن من الحد من ظاهرة الفساد سواء في بُعده المالي، أو في البُعد المتعلق بمحاربة الريع، رغم توفر تلك الأجهزة على آليات دستورية وقانونية للمراقبة السياسية.
عندما كنتُ أكتب لأُعري واقع الفساد الذي انتشر في كالسرطان في المغرب، فلأنني أحلم بوطن جميل خالٍ من الفساد، والرشوة والزبونية، وطن يسعُ الجميع، ويحتضن الجميع، مهما اختلفت وجهاتُ النظرِ، وتعددت الانتماءاتُ، ومهما يكُنِ الرأيُ والتباينُ فيه بين أهله، وطن لا يحقّ لأي أحدٍ، أن يتخذه ضيعة يفعل فيها ما يشاء.
نحلم أن تكون مصلحةَ الوطن هي العليا، ومصلحة الوطن تتجلّى في إشاعة مناخ الحوار والمناقشة البنّاءة من أجل النهوض بجميع أبناء الوطن وإطلاق طاقاتهم ومبادراتهم في العمل السياسيّ، مع ضمان الحقوق الكاملة للجميع، بما فيها ضمانُ حقِّهم في تدبير وإدارة شؤون البلاد إذا ما أتيحت لهم الفرصة عبر انتخابات ديمقراطية ونزيهة. وهذا ما يحققُ الأمن والأمان للوطن، في ظل الاستقرار والطمأنينة.
نحلم بوطن جميل، وانتماءٍ لأرضٍ نشمّ فيها رائحة الأجداد الذين استرخصوا أرواحهم فداء له، وطن قائمٍ على مؤسساتٍ دستوريةٍ وقانونيةٍ، لا تحابي أحدا، ولا تقف عاجزة أمام فساد المفسدين، وتضمن العيش الكريم لكل مواطن.
إنّ أخطر ما يتهدَّد الوطن في وجوده – فضلا عن أعداءِ الخارج – هناك أعداءُ الداخل: المفسدون الذين ينقضّون على ثروات الوطن ويحتكرونها لأنفسهم وأبنائهم للحفاظ على نفوذهم.
لهذا، سنظلّ نحلم ونحلم حتى يتحقق الحلم، وحينذاك يصبح الوطن قادرا على مسايرة عجلة التطور والتنمية المستدامة، والقطع مع النّخب الفاسدةِ المتنفّذةِ في قطاعات الدولة والإدارة ومع كلّ السياسيين الفاشلين.
فلاش: حب الوطن أمر فطري وغريزي متجذر في نفوس الشعوب، ليس من السهل تجاهله أو محوه تحت مهما تكن الظروف، ودور هذا الحب هو أن يكون حافزاً إيجابياً يحث على التضحية في سبيل الوطن من أجل عزته وضمان مستقبل أفضل له وللأجيال المتعاقبة، ولولا هذا الشعور لما تحررت الأوطان من ربقة الاستعمار الغربي، ولبقيت جنوب أفريقيا ترزح تحت نظام الأبارتيد العنصري، ولبقي الشعب الفيتنامي تحت سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية، ولولاه لما أجبرت الشعوب العربية فرنسا وبريطانيا الاستعماريتين على الخروج من أراضيها، وهو نفس الشعور الذي تتحلى به كل الشعوب التواقة إلى الحرية، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني المقاوم، هذا الشعور هو وحده قادر على تزكية حماسهم نحو تحرير وطنهم من قبضة الاحتلال الصهيوني، ولعل ذلك اليوم الذي سيحمل فيه الفلسطينيون مشاعل النصر ويرفعون فيه رايات الحرية بات قريبا. وما ذلك على الله بعزيز.