100 يومٍ إسناداً.. لماذا باتت الولايات المتحدة تخشى جبهة حزب الله أكثر؟
تُقارب واشنطن الجبهة الشمالية انطلاقاً مما يستطيع الحزب فعله ضمن مسارين: ما ظهر من قوة نارية، وما لم يظهر.
عندما تحركت السفن والبوارج وحاملات الطائرات الأميركية في اتجاه منطقة شرقي المتوسط، مع الساعات الأولى لطوفان الأقصى، كان هناك اتجاه سائد في مراقبة هذه الخطوة كونها تدخلاً عسكرياً أميركياً مباشراً في الحرب أولاً، واستعداداً لشن عمليات هجومية ضد قوى محور المقاومة ثانياً، ولاسيما حزب الله.
تلك الاتجاهات تبدّدت مع مرور الأيام، بحيث اتضح أن الحضور العسكري الأميركي أخذ هذا الشكل ضمن مفهوم “إدارة الحرب” لدى واشنطن، من خلال عدم توسعها، وذلك عبر طمأنة “إسرائيل” إلى أنها ليست في حاجة إلى فتح جبهات أخرى، في ظل وجودها العسكري، وردع أعدائها.
وإذا كانت مسألة طمأنة “إسرائيل” هدفها منع الأخيرة من اتخاذ خطوات استباقية في ضرب القوى الحليفة والمساندة للمقاومة الفلسطينية، فإن هذا الهدف نجح في منع الضربة الإسرائيلية الاستباقية، لكنه لم يردع حلفاء المقاومة الفلسطينية عن المساندة. وإذا كانت واشنطن تدّعي أنها حققت أهدافها في الأشهر الأخيرة، من خلال وجودها العسكري في المنطقة، فإن هذه الأهداف مرتبطة بما تريده من حليفتها “إسرائيل” (طمأنتها إلى أنها موجودة، كي لا تنفرد بقرار حرب، وضبط تحركاتها)، وليس بما تريده من حلفاء المقاومة الفلسطينية المساندين لها، والذين لم تردعهم تلك البوارج عن قرار المؤازرة، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا القرار لم يكن حرباً شاملة، تمّ التراجع عنه بسبب البوارج الأميركية.
وبما أن الجبهة الشمالية مع حزب الله شكلت إحدى أكثر المخاوف بالنسبة إلى “إسرائيل” بعد “طوفان الأقصى”، حضرت الولايات المتحدة إلى المنطقة، وهي تضع نصب عينيها عدم تحرك تلك الجبهة، في أي شكلٍ من الأشكال.
لكن، على الرغم من أن الجبهة تحركت سريعاً في إسناد غزة، فإنه كانت هناك خشية أميركية واضحة منها، ومن تطوّر المواجهة فيها، وتصاعدها… فما السبب؟
تدرك الولايات المتحدة جيداً أن الوتيرة، التي يواجه فيها حزب الله الاحتلالَ الإسرائيلي كجبهة إسناد، لم تخرج عن دائرة ما هو معلوم، على صعيد السلاح والقوة النارية والانتشار. وإذا كانت حرب عام 2006 انتهب بمفاجأة الكورنيت والطائرات المسيرة، فإن المواجهة الحالية بدأت بها، ولا تزال مستمرة وفق الوتيرة ذاتها، والتي تمكن من خلالها حزب الله من تحقيق أهدافه الـ 3: ردع “إسرائيل”؛ إفراغ المستوطنات الشمالية؛ إسناد المقاومة في غزة.
تُقارب واشنطن الجبهة الشمالية انطلاقاً مما يستطيع حزب الله فعله ضمن مسارين: ما ظهر من قوة نارية، وما لم يظهر. وبما أن ما ظهر كان كفيلاً بإلحاق هذه الخسائر بـ”إسرائيل”، فإنه كافٍ، أميركياً، لفهم الرسالة التي تُجبر واشنطن على العمل على منع توسّع تلك الجبهة، تحت وطأة خطر “ما لم يظهر”، مع الإشارة إلى أن ما ظهر معروف امتلاكه، لكن ليس كل ما خفي تعلم الولايات المتحدة به. وهنا حساباتها أيضاً ترتبط بما تعلم، وبما لا تعلم.
كان حزب الله حريصاً في الأيام الـ 100 التي مضت على عدم إعطاء الاحتلال الإسرائيلي وواشنطن أي تصور عملي ومادي عما يمكن أن تذهب إليه الأمور في حال توسعت الجبهة وفُرضت الحرب. وباستثناء ما تحدث عنه الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر لله، ومفاده أن الحرب ستكون من دون ضوابط، ومن دون سقوف، فإن المقاومة الإسلامية في لبنان لم تلمّح إلى تلك الضوابط والسقوف، وحافظت على قواعد اشتباك محددة ترتبط بالعمل اليومي للجبهة.
وحتى تلك الضربة التي استهدفت القاعدة الجوية في “ميرون” بـ 62 صاروخاً، 40 منها كاتيوشا و22 كورنيت، أو الضربة التي استهدفت القيادة الشمالية في صفد، فإن أهمية كل منهما كانت في دقة الإصابة وفي نجاحها ورسائلها، وليس في كونها غير متوقَّعة أو خارج قواعد الاشتباك، أو بأسلحة لم تُظَهَّر سابقاً.
وبينما تحدث جيش الاحتلال الإسرائيلي عن 2000 قذيفة صاروخية، تم إطلاقها من لبنان في 100 يوم، من أصل 11 ألفاً في المجمل (9000 من غزة)، فإن هذا الرقم يعبّر ليس فقط عن حجم الإسناد الكبير، بل عن القوة النارية التي يمكن أن تصل في أيام إلى مجموع الأشهر الـ 3 في حال توسّع الحرب… ولربما ساعات!
تدرك الولايات المتحدة طبيعة المعركة مع حزب الله أكثر، أو لربما بصورة متباينة عما تراه “إسرائيل”. والسبب أن واشنطن تنظر إلى الجبهة الشمالية ضمن الجغرافيا السياسية والعسكرية للمنطقة بأكملها، بينما تريد حكومة نتنياهو مواجهة الخطر في الشمال، من دون الالتفات إلى أن الأخطر هو مواجهته!
لذلك، تأتي الوفود الغربية إلى بيروت، وضمنها الأميركية، في سياق خطة عمل وخريطة طريق، تتجاوزان ما يجدث في الجبهة الشمالية، وتطالان المنطقة ككل. وبمعزل عن الرد الذي تتلقاه هذه الوفود من حزب الله، وهو رفض أي حديث أو تفاوض مع استمرار العدوان على غزة، أو الضغط على أي جبهة إسناد أخرى، فإن الأميركي يريد التهدئة لأسباب ترتبط بمحورية حزب الله في المنطقة، وبكونه جهة فاعلة ضمن نطاق جغرافي يتجاوز لبنان. وبالطبع، لم ينسَ الأميركيون حديث السيد نصر الله قبل أقل من شهرين من “طوفان الأقصى”، في 28 آب/أغسطس، عندما أكد استعداد جبهة المقاومة لتحرير شرقي الفرات، وقتال الأميركي هناك.
وبخصوص هذا الأمر، فإن السيد نصر الله كان واضحاً منذ الخطاب الأول له بعد طوفان الأقصى ،في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، عندما قال، متوجهاً إلى الأميركيين، إنّه “في حال أي حرب إقليمية ستكون مصالحكم وجنودكم الضحية والخاسر الأكبر”، وشارحاً، في الوقت عينه، كيف أن المعركة مع الإسرائيلي مرتبطة ارتباطاً عضوياً بوجود الأميركي في المنطقة، وصولاً إلى خطابه ما قبل الأخير، في 5 كانون الثاني/يناير الجاري، عندما شدد على أن مجريات “طوفان الأقصى” فرصة في تحرير كل شبر من لبنان، وفي تحرير المنطقة من الاحتلال الأميركي.
منطلقات الأميركي في خشيته من الجبهة الشمالية مع حزب الله لا ترتبط فقط بأمن “إسرائيل”، وإن كان ذلك مهماً طبعاً، بل باستراتيجيته في المنطقة ككل، إذ تشكّل “إسرائيل” جزءاً منها. وإذا كان الأميركي يعتقد أن في إمكانه تهديد لبنان بحرب سيشنها الاحتلال الإسرائيلي، كما أكد السيد نصر الله في خطابه الأخير قائلاً: “يا هلا ومرحب”، فلا توجد ضمانات بأن تلك الحرب لن تطال الحضور الأميركي في المنطقة أيضاً، فالحديث عن حرب إقليمية هو مجال أوسع من “إسرائيل” وحدها، لأن الإقليم يعني واشنطن، بصورة أساسية.
وإذا كان الأميركي فهم رسالة السيد نصر الله الدقيقة والمشفّرة بعناية، وفحواها أن “الذين هزموكم في بداية الثمانينيات ما زالوا في قيد الحياة، ومعهم اليوم أولادهم وأحفادهم”، فإن مفاعيل هذا التهديد، وإن كانت ترتبط بالأساطيل الأميركية التي رست في شرقي المتوسط، فهي غير بعيدة عن أي مواجهة واسعة يمكن أن تغامر بها “إسرائيل”، وتدفع من خلالها واشنطن إلى التدخل في لحظة معينة. لذا، فإن موقف الولايات المتحدة كان، منذ اللحظة الأولى، يتعلق، حتى مع الحشد العسكري، بفعل كل ما يؤدي إلى عدم تورطها في حرب أو معركة، من خلال الردع وطمأنة “إسرائيل”.
والإجابة الدقيقة عن السؤال المتعلق بشأن لماذا باتت الولايات المتحدة تتهيّب الجبهة الشمالية وتخشاها أكثر، بعد 100 يوم، هي أن حزب الله مصمم وجاد، إلى أبعد حدود، في استكمال ما بدأه في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر، عبر ربط جبهته بغزة كجبهة إسناد ومؤازرة، ولا إمكان لتعديل موقفه هذا إلا بتوقف العدوان على غزة، وهو ما يعني حتمية قبول واقع نتائج المعركة في غزة، أو الذهاب إلى حربٍ أوسع، سيكون الأميركي متورطاً فيها إما لإنقاذ “إسرائيل” من ورطة جبهات متعددة، وإمّا للدفاع عن مصالحه. ومن خلال ذلك، نفهم جيداً حجم الضغوط التي تمارسها جبهة فلسطين الشمالية على الولايات المتحدة، وليس فقط على “إسرائيل”.
هنا، لا بد من الإشارة إلى مسار يكشف تنسيقاً عالياً ومهماً ومؤثراً بين قوى محور المقاومة: في غزة، لا مفاوضات ولا تهدئة ولا هدنة، قبل وقف إطلاق النار فيها. وتستكمل جبهات المؤازرة ذلك عبر التأكيد أن لا توقف عن عمليات الإسناد حتى وقف إطلاق النار.
وبينما يوضح السيد نصر الله أنه “إذا استمرّ المسار الحالي في جبهات غزّة والضفة ولبنان واليمن والعراق، فإنّ حكومة العدو ستقبل شروط المقاومة”، فإن المقصود هنا أن واشنطن، التي تمتلك قرار استمرار الحرب أو وقفها، سيجبرها هذا المسار على الضغط أكثر على حكومة نتنياهو، ليس كلامياً فقط، بل بصورة عملية تتعلق بإمدادات السلاح، وفي مجلس الأمن، وغيره.
الأميركي، العالق ضمن هذا المسار، يحاول النأي بنفسه عن أي تدخل أو تضرر مباشر، مع استمرار “إطلاق النار”. وإذا كان مجبَراً على شن ضربات ضد اليمن، فإن تلك الضربات لا ترتبط بكيان الاحتلال مباشرة، بقدر ارتباطها بممر باب المندب البحري، وما يمثله لها كقوة هيمنة إقليمية وعالمية. لكن، في الجهة المقابلة، فإن ما تمارسه واشنطن من ضغوط على “إسرائيل”، من أجل منعها من شن حرب ٍعلى لبنان، لا يفصله حزب الله عن الدور الذي تؤديه واشنطن في استمرار الحرب على غزة.
عندما تهدد الولايات المتحدة الأميركية حزب الله بأن حكومة نتنياهو ستشن حرباً على لبنان، في حال لم يتراجع عن الحدود، ولم يتوقف عن إسناد غزة، فإن السيد نصر الله لن يتردد في القول إن هذا التهويل لن يجدي نفعاً، وإن على الأميركي أن يخاف على أداته وقاعدته العسكريتين في المنطقة (“إسرائيل”)، لأن الطرفين لا يريدان تلك الحرب، صحيح، لكن الفارق: أنّ طرفاً يخشاها ويضرب مكرهاً لحماية مصالحه، وطرفاً لا يخشاها ويهدد بحربٍ بلا سقوف وبلا ضوابط.