: محمد بادرة
– هل يمكن اعتبار الفلسفة عنصرا دخيلا على بنية حياتنا المجتمعية ام يمكن اعتبارها حاجة ضرورية تتطلبها حياتنا اليومية الفردية والجماعية وبالتالي فهي قوة مسيطرة لها القدرة على هدم البنيات السائدة واستبدالها ببنيات جديدة ملائمة للعصر والانسان الجديد؟
– هل الفلسفة غريبة على بنية حياتنا الاجتماعية خصوصا اذا ما علمنا انها اغريقية المنشأ والهوية حتى ولو اجتهد مفكرونا وفلاسفتنا ونجحوا في ترجمتها ونقلها وتبييئها واستدخالها الى الثقافة العربية المشرقية واصبغوا عليها لونا “اسلاميا” وكان من بين هؤلاء الفلاسفة الفارابي والكندي وابن سينا وابن رشد وخصوصا هذا الاخير في كتابه (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال). لكن هذه “الفلسفة” العربية الاسلامية وجهت لخدمة الوحي والايمان والخضوع للسلطة الدينية فهل ادى هذا التوجيه الروحي الايماني للفلسفة العربية الى فقدانها لخصوصيتها وقوتها العقلية؟؟
اليوم كما بالأمس نحن في حاجة الى الفلسفة للسيطرة على الفكر اللاعقلي واقامة ملكوت العقل مع ان اليوم ليس كالأمس حيث “دخلت” الفلسفة بقوة كمية ونوعية الى منظومتنا التربوية بهدف تنمية جملة من المهارات والقدرات وتعزيز السلوك العقلاني المنظم في الحياة الفكرية والنفسية والدراسية والاجتماعية للمتعلم وهكذا “اجتاحت” الفلسفة الفصول الدراسية في ثانوياتنا وجامعاتنا وفي كل المسالك والشعب كما ان مدرسيها يعدون بالمئات والالاف اما تلامذتنا وطلابنا الذين يتلقون هذه الدروس الفلسفية فيعدون بعشرات الالاف بل مئات الالاف لكن هذا لا يعني ان الثقافة الفلسفية دخلت حياتنا الاجتماعية وعلاقاتنا الانسانية او انها اندمجت في كل المشاريع المجتمعية. ويكفي ان نطرح السؤال التالي اي شكل واية درجة من العقلانية تمارس في حياتنا اليومية وحياتنا العامة والخاصة وقد لا نخطئ حين نقول ان دخول العقلانية في حياة جزء يسير من افراد المجتمع لا يعني ان الفلسفة قد دخلت في بنية حياتنا المجتمعية لأنه مازال مسلسل “الجهاد” على الحداثة مستمر ومعه استمرار مسلسل التضييق على الفلسفة كمنهج للفكر العقلاني والفلسفة كحداثة تؤسس لمفهوم جديد للمعاصرة.
ان حياتنا المعاصرة اليوم طغت عليها الوان من الثقافات المكبلة لحرية الانسان ومن بينها الثقافة العالمية الكوسموبوليتية المتجاوزة للقوميات التي صنعتها وسائل الاعلام والادوات التكنولوجية الحديثة وتبثها الاقمار الاصطناعية وكل وسائل التوصيل الحديثة ل”تصوغ” للناس رغباتهم وحاجياتهم واشكال تصرفاتهم وعقلياتهم وانظمة تربيتهم وانماط حياتهم …واذا كانت الفلسفة كمشروع تتميز بانها السيطرة على الواقع بالعقل وهي سيطرة يتيحها انتصار العقل على كل القوى المستبدة بالإنسان تقنية كانت ام قيما وطبائع فان التأكيد على ان الفلسفة ضرورة انسانية ليس امرا متجاوزا بل الفلسفة ضرورة واجبة لها حظ اكبر في المشاركة في تحرير وتغيير حياتنا ومجتمعنا اكثر من ذي قبل (كل فلسفة مبدعة تولد ثقافة مبدعة تسايرها).
في واقعنا اليوم لننظر الى حياتنا وعلاقاتنا الانسانية والاجتماعية فإننا نرى انها لم تتغير كثيرا رغم احتكاك نخبنا واحتكاك ابنائنا وشبابنا بالفلسفة في قاعات الدرس اوفي مدرجات العروض والمحاضرات اوفي الفضاءات العامة للفكر والابداع اومن خلال نشر وقراءة اعمال المفكرين والفلاسفة العرب والغرب …انه لأمر يدعو الى التأمل: فهل تكون الفلسفة جسما غريبا بحيث ان البنية العضوية لمجتمعنا وحضارتنا لا تعمل الا على رفض الفلسفة واماتتها؟ اليس في حياتنا اساس لقابلية التأثر تجعل من اندماج الفلسفة في شكل جديد للحياة في بلدنا ومجتمعنا ممكنا؟
انه لابد من الاقتناع والايمان بان الفلسفة هي ظاهرة فطرية طبيعية في الانسان وليست شيئا دخيلا عليه لان حياة الفرد عبارة عن حلقات متصلة من الفكر والتأمل تجعل عقولنا لا تكف عن التفلسف لأننا ان منعنا عنها ذلك نكون كمن يكلف الاشياء ضد طبيعتها. لذا فان التأكيد القائل بان في كل انسان استعدادا لقبول الفلسفة هو امر بديهي وصحيح بل ان ضمن هذا المعنى يمكننا ان نقتنع ان للفلسفة اليوم حظا اكبر في المشاركة في تغيير الحياة المجتمعية اكثر من ذي قبل خصوصا في هذا العصر البيوتكنولوجي الذي يهدد مستقبل الانسانية وتحويل الاجيال الاتية الى اشباح مسوخ تهدد بإطفاء (جدوة كل قيمنا الانسانية وابداعاتنا الحضارية ) فوكو ياما- ومن هنا اهمية الفلسفة في حياتنا وحضارتنا.
الفلسفة بمفهومها العميق هي مشروع تتميز بانها السيطرة على الواقع بالعقل وهي سيطرة يتبعها انتصار العقل على قوى التقدم اللامنضبط والخطير للوسائط الجديدة وقوى الجمود والرجعية والخرافة والجهل في الانسان ذلك ان الفلسفة العقلانية لا تدخل في حياتنا بواسطة الكلام او في صيغة ايديولوجيا وانما تدخل في الصيغة الوضعية للمعارف العلمية و التجارب الانسانية. والانسان في نظر (اخنباخ) لا يمكنه ان يستخرج معاني الوجود الا اذا اختبر الاحداث بجسده ونفسه وفكره يستكشفها بالمعاينة والنبش في الاعماق الداخلية ويستنطقها بالمساءلة والمراجعة والنقد ويستعيدها بالتفكيك والتركيب…والناس قد يعيشون حياة زائفة تسودها التفاهات والسطحيات والمظهريات لذلك لابد من التأمل في اصل الحياة وهدفها ومظاهرها وهو ما يدفع المرء الى يفكر تفكيرا فلسفيا وهذا ما يبين ان الفلسفة ضرورة حياتية وضرورة مجتمعية لتغيير بنية الحياة الانسانية.
الفلسفة كما يجب ان تقدم لناشئتنا وتلامذتنا وشبابنا هي انها تعني ممارسة الروح النقدية وهذه الاخيرة لا يمكن تفسيرها الا بالعقلانية والعقلانية هي الشك المنهجي والاستدلال بالبراهين. فان نضع شيئا موضع الشك هو ان نضعه موضع الاختبار وموضع استقصاء كل الافكار المتداولة في جميع المؤسسات الموروثة وجميع اصناف الموروث الثقافي من الاساطير و الآداب والمثل والقيم التي عبرت عن تطلعات الاسلاف في جميع المجالات الدينية والاجتماعية والسياسية الخ.. انه بهذا الجهد التحقيقي وحده يمكن للإنسان ان يمتلك تراثه (ما تلقيته من اسلافك اكتسبه لكي تمتلكه ) يقول غوته (ان الفلسفة تحرير لأنها ارادة تفهم)
الفلسفة اذن ضرورة وحاجة تتطلبها حياتنا لأنها تؤمن ان الانسان هو مصدر القيم وغاياتها فهل يمكن ان تصبح حياتنا (حياة فلسفية) تنزع القداسة عن الطبيعة وعن الموروث لتقيم على انقاضه ملكوت العقل؟؟ !!!ذ