بقلم عثمان الدعكاري
حينما تتجول بالمدينة أو تكون مارا بإحدى الأزقة الشعبية، يستوقفك صوت الأطفال الراكدين خلفك وهم ينادون “عمي عمي حق بابا عيشور”، وهم يحملون ألعابهم و أشياء أخرى كثيرة كالشمع و الحناء….
مشاهد تتكرر كلما حل اليوم العاشر من محرم، أول شهور السنة الهجرية، والذي صادف يوم أمس الخميس، حيث احتفل المغاربة بمناسبة “عاشوراء” التي تتميز في الفولكلور المغربي باحتفالاتها الكرنفالية التي تجسد رمزية الثنائية القائمة على الموت (النار) والانبعاث (الماء)، وقد رأى بعض كبار الباحثين الانتربولوجيين الغربيين كالفنلندي “وسترمارك” في هذه الاحتفالات مجرد طقوس تمارس من أجل التطهر من أدران السحر و طرد الشر والحصول على البركة.
لكن يبدو أن المناسبة استقطبت مع توالي القرون والأحقاب الكثير من بقايا ممارسات سحرية وتعبدية قديمة تضيع أصولها في ليل التاريخ السحيق، ولم يتبق منها الآن غير طقوس النار والماء العلنية مع ما يتخللها من ممارسات سحرية في الخفاء.
بابا عيشور
تشير المصادر التاريخية إلى أن المغاربة عرفوا في الماضي عادة إضرام نيران المباهج في مناسبات سنوية أخرى غير “عاشوراء”، ويتعلق الأمر بمناسبات، إما دينية ك ”عيد الفطر و عيد الأضحى”، أو موسمية ك”العنصرة”.
لكن الذي يظل مثيرا لعلامات الاستفهام، هو لماذا استقطبت مناسبة “عاشوراء” الكثير من تلك الطقوس الكرنفالية؟ ولماذا انقرضت اليوم عادة إضرام نيران المباهج في المناسبات الأخرى المذكورة؟
لقد استأثر اليوم العاشر من شهر محرم بأهمية كبرى لدى الصغار والكبار على السواء، إلى درجة أن المغاربة اليهود عوضوا يوم “الكيبور” وصاروا يحتفلون به في عاشوراء، بل إن المناسبة العزيزة على نفوس الكبار كما الصغار قد دفعت في إجماع امتد عبر ربوع المغرب المتفرقة إلى شخصنتها و منحها شخوصا لها أسماء مثيرة تطلق في العادة على أفراد.
فقد أطلقت عليها القبائل البربرية الامازيغية اسم “أعاشور” أو “ابنعاشور” وفي بعض مناطق جنوب المغرب اسم “حرمة” و “الشويخ” بينما أطلقوا عليها بمناطق شمال المغرب “با الشيخ” و “عيشور” و “بابا عيشور” في وسط المغرب.
وما دامت المناسبة تمزج في مظاهرها الاحتفالية بين الفرح والحزن، وبين الموت والانبعاث، فقد كان فتيان وفتيات بعض القبائل المغربية والى غاية فترة ليست بعيدة جدا يحيون طقوسا احتفالية يشيعون خلالها بالأهازيج ودقات “الطعاريج”، جنازة رمزية تنتهي بدفن دمى مصنوعة من القصب أو أغصان الأشجار وترمز إلى دفن “بابا عيشور”، وحتى اللحظة الراهنة ما زلنا نصادف في طريقنا كلما حلت مناسبة “عاشوراء” فتيات و أطفال يحملن الطعاريج و”البنادرير” ويطلبن من المارة نقودا تحمل في لعبهم البريء اسم “حق بابا عيشور”.
كما لا تزال منتشرة على نحو واسع بالمغرب عادة زيارة المقابر ورش القبور بالماء وماء الزهر خلال مناسبة “عاشوراء”، مع التصدق بالتين المجفف وقطع الخبز على الفقراء الذين يحجون بكثرة إلى المقابر منذ ساعات الصباح الباكر؛ وهي عادة لا يوصي بها الإسلام، ولكن يلتزم بها المغاربة المسلمون مع ذلك، ويبدو أنها من بقايا طقوس قديمة ارتبطت بالمناسبة في وقت من الأوقات.
كما تقبل الأسر المغربية على عادات استهلاكية خاصة بالمناسبة، تشمل تناول وجبات تتكون من الدجاج و الكسكس بسبع خضر والفواكه الجافة السبع (تين، تمر، حمص، لوز، زبيب وفول سوداني)، وهو ما يؤكد القيمة الرمزية لذبح الدجاج “كقرابين تقدم إلى الجان” وأيضا القيمة الرمزية للعدد 7 الذي يعتبر عددا له قيمة سحرية عالية في معتقد المغاربة.
نيران المباهج
خلال الأيام التي تسبق مناسبة “عاشوراء” يتم إعداد حطب الموقد وتجميعه في المكان نفسه الذي اعتاد الناس على إضرام النار فيه كل عام، وفي اختيار نوعية الحطب كانت الأفضلية تمنح لبعض الأشجار التي تعتبر “مباركة” أي تلك التي تعتقد العامة أن لها “بركة” كشجيرات “الدفلى و الزعتر و الحلفاء و أشجار الزيتون البري (الزبوج) و الزيتون المثمر و النخل و غيرها”.
وعند حلول ليلة “عاشوراء” تضرم النيران من طرف شخص له بعض القداسة التي يستمدها من تكوينه في أمور الدين “طالب أو إمام مسجد القبيلة”، وتعرض الحيوانات والدواب للدخان بأن تمر من خلال سحائب الدخان المنبعث من نيران المباهج، ثم يليها أفراد الأسرة من الرضيع المحمول على ظهر أمه، حتى العجوز المتكئ على عصاه، فلدخان نيران عاشوراء بركة تطرد الأرواح الشريرة و تطهر المنازل وتجلب السعد!.
وفي مجتمعات جبال الأطلس المنعزلة التي شهدت على مدى قرون طويلة اندماجا مثاليا بين المغاربة المسلمين واليهود كانت ليلة “عاشوراء” تعتبر احتفالا سنويا يجمع الكل، إذ يطوفون حول النار ويقفزون فوقها ثلاث أو سبع مرات، في تمارين طقوسية يشترك في أدائها الصغير و الكبير المسلم و اليهودي.
إن ثراتنا الفولكلوري في المغرب الأقصى المرتبط بمناسبة عاشوراء هو من الغنى و التنوع بحيث يكشف عن مدى العمق التاريخي والحضاري الذي تفاعلت في صهره الأساطير والأديان المتعاقبة، وهو وحده يستحق أن يكون مادة ثرية للدراسة المستفيضة من قبل علماء الانتربولوجيا والاجتماع.
لكن، ما الذي تبقى من الاحتفالات الطقوسية بنيران المباهج في عاشوراء؟
الملاحظ انه بعد أن كانت الاحتفالات أسرية تتعبأ حولها المجتمعات الصغيرة في الحارات الشعبية والقرى، لممارسة طقوس لها دلالة سحرية وبشكل علني، تحولت اليوم إلى لعب أطفال تتخلله قفزات وطواف حول النيران بلا دلالة رمزية واضحة لديهم، مع اللهو العابث بالمفرقعات واللعب النارية.
غير أن الطقوس والممارسات السحرية لم تختف تماما عن المناسبة، بل أصبحت سرية فقط، أو لنقل على وجه الدقة أنها أصبحت أقل علانية عما كان عليه الأمر فيما مضى.