بقلم د. مبارك أجروض
في الواقع يبدو أن التعايش مع Covid-19 أصبح واقعاً لا مفر منه بعدما كان اختيار الإغلاق اضطرارياً وإجبارياً بالنظر لعدم معرفة طبيعة المرض وانتظار اللقاح المناسب، لكن يبدو اليوم أن العالم اقتنع بأن الوباء سيطول، وأن العودة إلى الحياة الطبيعية أصبحت مطلبا يلفه ضباب ملح لعودة الاقتصاد والأعمال، وبالتالي فقد بدأت الحياة الاجتماعية الجديدة مع Covid-19، وأهم مميزاتها أن الأفراد أصبحوا مسؤولين عن حماية أنفسهم بشكل أساس إلى جانب الحكومات، إن الرهان في هذه الفترة على استجابة الشعوب للتدابير الاحترازية، كلما احترمنا التباعد الجسدي وطبقنا النقاط المتعلقة بالوقاية، اقتربنا أكثر من تقليص منافذ العدوى، ولكن هذا التعايش قد ينجح في الدول المتطورة، لكنه سيجد مطبات في البلدان التي تفتقد لمعايير الوقاية وتعاني نقصا حادا من المواد الطبية. وهو ما يستدعي تحقيق التكافل الإنساني بين الدول باعتبار أن التعاون كفيل بضمان عدم انتقال عدوى الوباء.
ففي أوروبا قررت المملكة المتحدة رفع جميع قيود Covid-19 تقريبًا، بينما سمحت ألمانيا للحاصلين على لقاح Covid-19 بالسفر دون حجر صحي، ولم يعد معظم الإيطاليين يرتدون الكمامات، ولا تزال مراكز التسوق مفتوحة في سنغافورة. ويبدو أنه بعد 18 شهرًا من ظهور Covid-19، تشجع الحكومات في آسيا وأوروبا والأمريكتين الناس على العودة إلى روتينهم اليومي والانتقال إلى الوضع الطبيعي الجديد وتبني مبدأ التعايش مع الفيروس، حيث تمتلئ قطارات الأنفاق والمكاتب والمطاعم والمطارات مرة أخرى.
لكن العلماء يحذرون من أن هذه الاستراتيجيات قد تكون سابقة لأوانها، خاصة مع ظهور المزيد من المتغيرات الأكثر عدوى، التي تعني أنه حتى الدول الغنية التي لديها لقاحات وفيرة، بما في ذلك الولايات المتحدة، لا تزال عرضة للخطر. وفي أستراليا، بدأ المسؤولون في قبول عمليات الإغلاق والقيود المتدرجة كجزء ضروري من رحلة التعافي، حيث يتم تشجيع الناس على تغيير منظورهم الوبائي والتركيز على تجنب المرض الشديد والموت بدلاً من العدوى التي يصعب تجنبها، كما بدأت الدول التي كانت تطمح للتخلص من Covid-19، التفكير في إعادة النظر في سياساتها.
ونقلت صحيفة The New York Times الأمريكية، عن ديل فيشر أستاذ الطب في جامعة سنغافورة الوطنية الذي يرأس اللجنة الوطنية للوقاية من العدوى والسيطرة عليها بوزارة الصحة السنغافورية، قوله: ”علينا إخبار الناس بأننا نتوقع تلقى الكثير من الحالات، وهذا جزء من الخطة، وعلينا تخطي الأمر”. فلأشهُر، كان العديد من المقيمين في سنغافورة يدققون في تفاصيل كل حالة جديدة من حالات الإصابة بCovid-19، وكان هناك شعور واضح بالفزع عندما وصل عدد حالات الإصابة إلى العشرات لأول مرة، ومع إغلاق الحدود، كان هناك أيضًا شعور بالهزيمة، حيث لم تكن حتى الإجراءات الأكثر صرامة كافية للوقاية من العدوى.
وكتبت مجموعة من الوزراء السنغافوريين في مقال رأي في صحيفة The Straits Times: ”شعبنا مرهق من المعركة، والكل يسأل: متى وكيف سينتهي الوباء ؟”. ويقول المسؤولون في سنغافورة، التي سجلت مستوى قياسيا في الحالات الجديدة يوميا والبالغ 182 إصابة، إن عدد الحالات من المرجح أن يرتفع في الأيام المقبلة، ويبدو أن تفشي المرض قد أخر خطط إعادة الفتح على مراحل، لكنه لم يفسدها. قال أونج يي كونغ، وزير الصحة السنغافوري، هذا الشهر: ”من الضروري أن يشعر الناس بالتقدم، بدلاً من انتظار ذلك اليوم المنتظر الذي يٌفتح فيه كل شيء”.
وأعلن المسؤولون في سنغافورة عن خطط لتخفيف القيود تدريجيا وتحديد مسار العودة إلى الوضع الطبيعي، وتضمنت الخطط التركيز على مراقبة عدد الأشخاص الذين يعانون من مرض شديد، وعدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى رعاية مركزة وعدد الذين يحتاجون إلى أجهزة التنفس الصناعي، بدلا من عدد المصابين بالعدوى. لكن هذه القيود قد تعرضت لتحديات شديدة، حيث تفشى المرض عبر العديد من صالات الكاريوكي وميناء كبير لصيد الأسماك، وأعلنت سنغافورة عن تشديد الإجراءات، بما في ذلك حظر جميع المطاعم.
وقال وزير التجارة، جان كيم يونغ، إن البلاد لا تزال على المسار الصحيح، حيث قارن القيود الأخيرة بـ“الحواجز“ على الطريق نحو الهدف النهائي. وقامت سنغافورة بتطعيم 49% من سكانها بالكامل واستشهدت بإسرائيل، التي قامت بتطعيم 58%، كنموذج، حيث ركزت إسرائيل على التعامل مع المرض الشديد، وهو تكتيك أطلق عليه المسؤولون ”القمع الناعم”. وتواجه إسرائيل ارتفاعًا حادًا في عدد حالات الإصابة، التي ارتفعت من أقل من 10 إلى مئات الحالات الجديدة يوميا، ما دفع إسرائيل إلى إعادة قرار ارتداء الكمامات الإلزامي في الأماكن المغلقة.
وقال داني ليفي، موظف حكومي إسرائيلي، كان ينتظر مشاهدة فيلم في مجمع سينمائي في القدس الأسبوع الماضي: ”إنه أمر مهم، لكنه مزعج للغاية”. وقال ليفي إنه سيرتدي قناعه داخل المسرح، لكنه وجد أنه من المحبط إعادة فرض القيود مع انتشار متغيرات فيروسية جديدة في البلاد بسبب ضعف الاختبار والإشراف على المسافرين الوافدين. وقال مايكل بيكر، عالم الأوبئة في جامعة أوتاجو في نيوزيلندا، إن الدول التي تسلك طرقًا مختصرة نحو إعادة فتح أبوابها، تعرض الأشخاص غير المحصنين للخطر وتلعب بأرواحهم.
وقال بيكر الذي ساعد في وضع استراتيجية القضاء على Covid-19 في نيوزيلندا: ”في هذه المرحلة من الزمن، من المدهش أن تعتقد الحكومات أنها تعرف ما يكفي عن كيفية تصرف هذا الفيروس بين السكان ليختاروا التعايش معه”. ويبدو أن النيوزيلنديين قد تقبلوا إمكانية فرض قيود طويلة الأجل، وفي دراسة استقصائية أجرتها الحكومة مؤخرًا على أكثر من 1800 شخص، قال 90% من المستجيبين إنهم لا يتوقعون عودة الحياة إلى طبيعتها بعد توزيع اللقاح، وذلك يرجع جزئيًا إلى الأسئلة العالقة حول الفيروس. فلا يزال العلماء لا يفهمون تمامًا ”مرض Covid-19 الطويل الأمد“maladie covid à long terme، وهو الأعراض طويلة المدى التي لا يزال مئات الآلاف من المرضى المتعافين من Covid-19 يعانون منها، ولذلك يقول العلماء إن الفيروس لا يجب أن يُعامل مثل الإنفلونزا، لأنه أكثر خطورة بكثير، كما أنهم غير متأكدين من مدة المناعة التي توفرها اللقاحات ومدى نجاحها ضد المتغيرات التي تظهر واحدة تلو الأخرى.
ولا يزال جزء كبير من العالم النامي يواجه أيضًا ارتفاعًا في عدد الإصابات، ما يمنح الفيروس فرصة أكبر للتكاثر بسرعة وإنتاج المزيد من الطفرات الأكثر عدوى، ويذكر أنه حتى الآن لم يتلق جرعة اللقاح سوى 1% فقط من الأشخاص في البلدان منخفضة الدخل، وفقًا لمشروع le projet Our World in Data. وفي الولايات المتحدة، تختلف الظروف والأوضاع بقدر كبير من مكان إلى آخر، فعلى سبيل المثال، تتمتع ولايات مثل كاليفورنيا ونيويورك بمعدلات تطعيم عالية، ولكنها تطلب من الأشخاص غير الملقحين ارتداء الكمامات في الأماكن المغلقة، في حين تمتلك ولايات أخرى، مثل ألاباما وأيداهو، معدلات تطعيم منخفضة ولكنها لا تلزم المواطنين بارتداء الكمامات.
وتخطط بعض المدارس والجامعات لإلزام الطلاب داخل الحرم الجامعي بأخذ التطعيم، ولكن العديد من الولايات حظرت المؤسسات العامة من فرض مثل هذه القيود. وفي أستراليا، أشار العديد من المشرعين في الولاية هذا الشهر إلى أن البلاد قد وصلت إلى ”مفترق طرق“ تحتاج فيه إلى الاختيار بين القيود المستمرة أو تعلم التعايش مع العدوى، وقالوا إن أستراليا قد تحتاج إلى متابعة الكثير من دول العالم والتخلي عن النهج الهادف إلى التخلص من العدوى تمامًا، لكن غلاديس بريجيكليان، زعيمة ولاية ”نيو ساوث ويلز“ الأسترالية، انتقدت الاقتراح على الفور، وقالت: ”لا يمكن لأي دولة أو أمة على هذا الكوكب التعايش مع متغير Delta عندما تكون معدلات التطعيم لديها منخفضة للغاية“، حيث تم تطعيم حوالي 11% فقط من الأستراليين فوق سن 16 عامًا بشكل كامل ضد Covid-19. كما تراجع رئيس الوزراء سكوت موريسون عن الدعوات لتغيير بروتوكولات Covid-19 في البلاد، وبعد الإعلان عن خطة من 4 مراحل للعودة إلى الحياة العادية، أصر على أن قوة متغير Delta تتطلب تأجيل الخطة إلى أجل غير مسمى.
وفي الأماكن التي كانت فيها اللقاحات متاحة على نطاق واسع لأشهر، مثل أوروبا، راهنت الدول بشكل كبير على برامج التطعيم الخاصة بها كتذكرة للخروج من الوباء ومفتاح للحفاظ على انخفاض عدد حالات الاستشفاء والوفيات، ويمكن للألمان الذين تم تحصينهم بشكل كامل في الأشهر الستة الماضية تناول الطعام داخل المطاعم دون إظهار دليل على سلبية الاختبار السريع، ويُسمح لهم بالاجتماع على انفراد دون أي قيود والسفر دون حجر صحي لمدة 14 يومًا. وفي إيطاليا، يُلزَم المواطنين بارتداء الكمامات فقط عند دخول المتاجر أو الأماكن المزدحمة، ولكن الكثير من الناس يستمرون في ارتدائها.
وقالت مارينا كاسترو التي تعيش في روما: ”بناتي يوبخنني، ويقلن إنني تلقيت التطعيم ولست بحاجة إلى ارتداء الكمامة، ولكن الحقيقة أنني اعتدت على ذلك”. واتخذت إنجلترا التي قامت بتطعيم جميع سكانها الأكثر عرضة للمرض، النهج الأكثر صرامة، وألغت البلاد جميع قيود Covid-19 تقريبًا على الرغم من ارتفاع الإصابات بمتغير Delta، خاصة بين الشباب، وفي يوم وصفته الصحف الشعبية بـ“يوم الحرية“، فتحت الحانات والمطاعم والنوادي الليلية أبوابها على مصاريعها، كما تم رفع القيود المفروضة على التجمعات والإلزام بالكمامات، وشوهد الناس يتناولون الطعام في الهواء الطلق ويأخذون حمام شمس متجاورين.
وفي غياب معظم القواعد، تحث الحكومة الناس على استخدام Responsabilité personnelle la للحفاظ على السلامة. وفي الشهر الماضي، قال ساجد جافيد، وزير الصحة البريطاني، الذي ثبتت إصابته بـCovid-19، إن البلاد في حاجة إلى ”تعلم كيفية التعايش“ مع الفيروس. وهذا على الرغم من استطلاعات الرأي التي تشير إلى أن الجمهور الإنجليزي يفضل نهجًا أكثر تدرّجا لرفع الإغلاق.