كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن القضاء، وإصلاح القضاء، وإصلاح قانون المسطرة الجنائية…، وارتباط هذا الإصلاح بتحقيق الأمن التنموي الذي يمكن من تحقيق التنمية والإقلاع الاقتصادي ويسهل جلب الاستثمارات، لكن وكما أن هذا النقاش صحي ومطروح على أعلى المستويات السياسية والفقهية فإنه وسيلة من وسائل الحرب على المؤسسات من قبل بعض الأدوات الإعلامية ويحمل في طياته أبعاد تحقير دور هاته المؤسسات من خلال استهدافها واستهداف الأطقم العاملة بها، وهو ما يتنافى مع الحركية الموضوعية لإصلاح منظومة العدالة وضمان استقلال فعلي لمؤسساتها، إلى حرب تخدم مصالح ضيقة تستهدف النيل من مؤسسة القضاء كأحد أركان جهاز الدولة الساهرة على الأمن الفردي والجماعي.
الأكيد أن دستور 2011 حاول ترسيخ استقلال فعلي لجهاز القضاء عن مؤسسات الدولة وكرسه خطا لا رجعة فيه كما هو وارد في الفصل 107 من الدستور المغربي والذي أكد على أن السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية، والفصل 109 الذي منع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء حيث شدد على أنه “يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، ولا يتلقى القاضي في شأن مهمته القضائية أية أوامر أو تعليمات ولا يخضع لأي ضغط” مضيفا أنه “يجب على القاضي كلما اعتبر أن استقلاله مهدد أن يحيل الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية”، مبنها إلى أنه ” يعد كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد خطأ مهنيا جسيما، …، يعاقب القانون كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة”.
إذن فدستور 2011 أسس لاستقلالية فعلية للسلطة القضائية عن باقي مؤسسات الدولة، لكن أن يتم الركوب على أحداث هامشية لا تشكل القاعدة بل الاستثناء لاستهداف القضاء ومؤسساته فهو عمل لا يعكس موضوعية الطارحين، وإنما تعبير عن دواخل سيكولوجية وحقد ضد هاته المؤسسات ارتباطا بالتاريخ، أو لخدمة أجندات وأهداف تختلف الغايات منها.
الأكيد أن الدولة المغربية وعبر كافة مؤسساتها حتى على مستوى السلطة العليا ما فتئت تحث على ضرورة ضمان استقلال فعلي للقضاء وإصلاح منظومة العدالة باعتبارها المدخل لتحقيق التنمية.
والأكيد أيضا أن المسار طويل وأن التقارير الدولية ما فتئت تحث على ضرورة تحقيق هاته الطفرة النوعية حتى من داخل المؤسسات المالية العالمية التي تدعو الدولة المغربية للمزيد من تحقيق الإصلاح داخل منظومة العدالة لتحقيق أكبر جذب للاستثمارات بما يحقق الرفاه والمساوات الفعلية بين الجميع.
لكن ما يتم ترويجه الآن عبر مجموعة من المنابر الإعلامية من هجمة شرسة على هاته المؤسسات فهي تعبير فعلي عن أزمة هاته الذوات وسعيها لتعطيل المسار الديمقراطي وضمنه تحقيق أكبر قدر من استقلال القضاء، وأن الركوب على انزلاقات هامشية لا يعكس إلا سلوك حقد ضد الدولة ومؤسساتها وقافلة التنمية التي انطلقت في كافة المجالات تحقيقا للدولة الاجتماعية التي يتساوى أفرادها في الحقوق والواجبات، وضمان الحماية القانونية الفعلية لحقوق الإنسان، وإحكام الرقابة على الالتزامات والمعاملات في جميع المجالات، وتصريف القضايا بالسرعة المطلوبة والفاعلية المنشودة لإشاعة العدل بين الناس.
خطوات عكسها الإطار الدستوري للمملكة الذي كرس مبدأ فصل السلط واستقلال القضاء، وهو ما عكسه الفصل 110 من الدستور الذي أوجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون، والالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها، وأيضا الفصل 112 الذي حدد النظام الأساسي للقضاة بقانون تنظيمي، وليس بقانون عادي ولا بمرسوم، والفصل 113 الذي نص على إحداث المجلس الأعلى للسلطة القضائية كمؤسسة دستورية للسهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، وضمان استقلالهم الفعلي.
وهو نفس الخط الذي ما فتئ جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده يؤكد عليه في العديد من خطبه السامية ضمنها الخطاب الملكي ليوم 20 غشت 2009، والخطاب الملكي ليوم 8 أكتوبر 2010 بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية، والخطاب الملكي ليوم 9 مارس 2011 بمناسبة الإعلان عن الإصلاحات الدستورية وتقديم تقرير اللجنة الملكية الاستشارية حول الجهوية، والخطاب المولوي ليوم 08 ماي 2012 بمناسبة تنصيبه أعضاء الهيئة العليا للحوار الوطني حول الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة.
هاته الهيئة التي سطرت ستة أهداف أساسية استراتيجية كبرى من الضروري العمل على الوصول إليها والمتمثلة في ترسيخ استقلال السلطة القضائية، وتخليق منظومة العدالة، وتعزيز حماية القضاء للحقوق والحريات، والارتقاء بفعالية ونجاعة القضاء، وإنماء القدرات المؤسسية لمنظومة العدالة، وتحديث الإدارة القضائية، وتعزيز حكامتها.
إن المطلوب هو النقاش الوطني الصادق لترسيخ هاته الأهداف الاسترتيجية وتنزيلها بدل لغة النباح والسعار التي نراها اليوم والتي لا تبني وطنا ولا مؤسسات.