سجل الأديب والشاعر أبو الطيب الوشّاء عادات وتقاليد مجموعة من رجال الحاشية والنخبة العباسية.
وحكى الوشّاء في كتابه “الظرف والظرفاء” عن أفراد النخب العباسية -ومنهم كتاب وعلماء وموسيقيون من الرجال والنساء- أن هذا الأسلوب منحهم قدرة على تمييز أنفسهم عن بقية المجتمع، وساعدهم بسماته المميزة على تكوين طبقة من النخبة لا تستند إلى الأنساب أو الثروة ولكن إلى إتقان الثقافة وتقاليد الشعر.
واعتبر الوشاء في مقدمة كتاب الظرفاء الذي حققه الأكاديمي فهمي سعد، أن الظرافة من الخصال الفردية التي يتحلى بها الإنسان، ومنها ما يتعلق بالأخلاق الاجتماعية مثل حفظ الجوار والوفاء والأنفة من العار وطلب السلامة من الأوزار، ومنها ما يتعلق بوسائل الفرد وعدته من الفصاحة والبلاغة والعفة والنزاهة.
آداب الظرفاء
وضع الوشّاء في كتابه أبوابا لوصف زي الظرفاء في المسرّات ولباس الظريفات من النساء و”زيهم في الشراب الذي يتخيره ذوو الألباب”، والأشياء التي يتطير الظرفاء من إهدائها ويرغبون عنها لشناعة أسمائها، وما قيل في صفة الورد ومحلّه في قلوب ذوي الوجد، وذكر التفاح وما كره الأدباء من أكله، وصفة التظرّف ومباينة الظرفاء لذوي التكلف.
ومن بين التقاليد والممارسات المثيرة للاهتمام لدى الظرفاء نقش الأبيات الشعرية على مجموعة متنوعة من الأمتعة. واعتبر الظرف مثالا على الازدهار الفكري الذي وسم العصر العباسي وبغداد.
وعلى الرغم من أن البلاط العباسي بدا وكأنه مقر الظرفاء، فإن “آداب الظرف” لم تكن تُمارس فيه فقط بل أصبحت نموذجا يرغب العديد من الناس في الاقتداء به ولا سيما الشباب.
نقوش العشاق
عرف الظرفاء نقش الأبيات الشعرية على أكمام ملابسهم أو جوانبها والأحذية والفواكه مثل التفاح والبطيخ والأكواب والآلات الموسيقية والأبواب والشرفات والجدران والوجوه والخدود والجباه وحتى الأقدام، بحسب العديد من الأمثلة التي نقلها الوشّاء في كتابه.
وتتناول العديد من القصائد موضوع الحب العفيف الذي كان من تقاليد الظرفاء، إذ يصوّر الشاعر نفسه في حالة من الضعف والهشاشة المرتبطة بتجاهل المحبوب ويقضي أيامه مهموما متمنيا الوحدة والنسيان دون فائدة.
وسجل الوشاء عددا كبيرا من هذه النقوش وقصصها، ومنها “معركة غرامية” بين عشيقين هما: الوزير العباسي محمد بن عبد الملك الزيات وجارية غير معروفة كان يحبها ثم تنكر لها، فكتبت على خاتم لفظا تعاتبه فيه، فـ”بلغه ذلك وكتب على خاتمه ضد ما كتبت، فبلغها فمحت ما كان على خاتمها وكتبت ضد ما كتب، فبلغه ذلك فمحا ما كان على خاتمه وكتب ضد ذلك في أبيات”، يقول فيها:
كتبت على فص لخاتمها: من مل أحبابه رقدا
فكتبت في فصي ليبلغها: من نام لم يشعر بمن سهدا
فمحته واكتتبت ليبلغني: ما نام من يهوى ولا هجدا
فمحوته ثم اكتتبت: أنا والله أول ميت كمدا
قالت: يعارضني بخاتمه والله لا كلمته أبدا
وتناول الوشّاء في موضع آخر من الكتاب قصة أبيات نقشت على منديل معطر بالمسك أرسلته “ظريفة” إلى حبيبها، وكتبت عليه:
أنا مبعوثٌ إليك أُنسُ مَولاتي لديك
صنعتني بيديها فامسح بي شفتيك
واعتبرت تقاليد “الظرف” نوعا من الفن الإسلامي المادي المقابل للفن الإسلامي المعنوي الذي اشتهر به “الصوفية”.
ومثل منديل العاشقة، أرسل ظريف منديلا آخر لمحبوبته وكتب عليه:
أنا منديل محبٍّ لم يزل ناشفا بي من دموعِ مقلتيه
ثم أهداني إلى محبوبة تمسحُ القهوةَ بي من شفتيه
أبواب
اعتبر كلا المنديلين وسيلة تواصل بين الظرفاء العشّاق، واكتسب شخصية بحمله الرسالة، فهو يذكر بالحبيب ويلامس المحبوب ويحمل دموع المحب المعذب بلطف وخفة و”ظرف”.
وخصص الوشّاء أبوابا لما “اختير من ألفاظ الأدباء في المكاتبات وما استحسن من الظرفاء من مليح المعاتبات”، وما كتبوه على العنوانات وسلكوا به سبيل المداعبات، وما ينقشه أهل الهوى، وما وجد على التفاح من الألفاظ الملاح، إضافة إلى أبواب حول مودة الصديق وشرائع المروءة وفضل الصدق وقبح خلف المواعيد وإفشاء السر، وقواعد التعطر والتطيب والطعام.
واعتبرت تقاليد نقش الشعر على المحامل المادية كما عرفها الظرفاء في بغداد في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين تجربة شعرية فريدة من نوعها تختلف عن الإلقاء الشعري التقليدي والقراءة أو التلاوة الصامتة، وتتفاعل مع ما كتبت عليه وتكتسب منه السياق، وحفظت بفضل بقائها على محامل مادية خلافا للمعتاد من تداول الشعر بطريق الإلقاء الشفهي.