هل الإنسان الحديث أصبح يؤمن بالاختلاف حقا، ويؤمن بأن الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة هم أيضا لهم قدراتهم التي يمكن تنميتها؟
وهل يمكن للمرء التخلي عن عائلته وماضيه، وتركهم وراءه دون أن يعبأ بهم؟
وإذا تمكن فعلا من التخلي عنهم، فهل يمكنه الحفاظ على هذا الموقف ومكتسباته، أو أن الماضي يعود ليمد جسره إلى الحاضر رغم إرادتنا، خاصة لو كان هذا الماضي المتخلى عنه طفلا يبلغ من العمر تسع سنوات، لكنه ليس طفلا عاديا، بل هو طفل مصاب بالتوحد؟
هذه هي الأسئلة التي يطرحها المخرج التونسي “نجيب بلقاضي” في فيلمه “في عينيا”، ويحاول أن يجد لها إجابة في رحلة هذا الأب العائد إلى تونس من مستقره في مارسيليا، بعد أن توفيت زوجته الأولى، وبات عليه أن يرعى ابنه الصغير المريض بالتوحد.
ويبدو أن اندماج الأب والطفل من المستحيلات، فالأب الأناني الذي تخلى عن ابنه سابقا وتركه رضيعا، لا يحتمل صراخ الطفل الذي لا ينقطع، لأن الأب لا يرى ما يراه الطفل المولع بتفريغ ألعابه من عيونها.
يبدأ بلقاضي فيلمه بلقطة لأشعة سونار لطفل لم يولد بعد سيكون اسمه يوسف، ويبدو احتفاء والده لطفي به واضحا، هذه هي المفارقة التي يبني عليها بلقاضي فيلمه، ما الأبوة؟ هل هي مشاعرنا تجاه طفل مثالي في كل شيء، مثل الأطفال الذين تنشر المجلات صورهم، أو أن الأبوة الحقة هي أن نحب أطفالنا حتى لو لم يكونوا على شاكلتنا؟
فكرة قبول الآخر المختلف هذه هي محور الفيلم، فإذا كنا غير قادرين على قبول أبنائنا على اختلافهم، فكيف لنا أن نقبل الصديق المختلف والزميل المختلف وحتى المواطن المختلف!
هذا الاختلاف الذي لا يقبل به الجميع، عامل السوبر ماركت (البقالة) الذي يعتقد أن يوسف فتاة لأن شعره طويل، والعم الذي يأخذه إلى صالون الحلاقة ليقص له شعره، والجدة التي ترفض تربية الصغير لأنها تراه طفلا غير طبيعي، وفي الوقت نفسه ترفض أن يبقى يوسف مع خالته التي تعيش مع حبيب أجنبي على غير دينها.
هذا الاختلاف الذي لا يقبله أحد يمتد إلى لطفي ذاته، والذي فرّ إلى “مجتمع متحضر” يقبله -باختلافه وبكونه تونسيا مسلما- لكنه في الوقت نفسه لا يقوى على أن يواجه العالم باختلاف، حتى زوجته الفرنسية لا يقوى على مصارحتها بأنه فرّ من وطنه تاركا وراءه زوجة وطفلا، ولا يقوى (لطفي) على مواجهة أمه بقرط في أذنيه.
عاملان مهمان يحركان علاقة الأب لطفي بابنه يوسف فرقتهما إرادة الأول، واجتمعا ثانيا رغم إرادتهما معا.
العامل الأول هو الزمن الذي يشير له بلقاضي في علاقة لطفي بابنه وتؤرخ له الصور القليلة التي خلفتها الأم، فالأب كان حاضرا فقط حينما كان الصغير لم يكمل عامه الأول بعد، لم يرعه، ولم يره يكبر، كل ما يربطه به هو مقاطع صورتها الأم رصدت هذا الطفل وهو يكبر في غياب الأب، وأمه هي كل ما يربطه بالعالم والوحيدة التي يستطيع النظر في عينيها.
وأما الثاني فالمكان، في اختيار بلقاضي للبيت القديم حيث عاش الأبوان في حياة سابقة قبل أن يهجر لطفي زوجته وطفلها من أجل أن يعيش في فرنسا، فهذا البيت هو مكان خطيئة لطفي الأولى حينما هجر طفله يوسف.
الآن بات عليه أن يكفّر يوميا عن هذا الخطأ مثل سيزيف (المعاقَب لمكره وخداعه إله الموت حسب الميثولوجيا أو الأساطير الإغريقية) والذي يحمل الصخرة فوق كتفه دون جدوى (لتدحرجها من فوق الجبل إلى أسفله وعودته لحملها مرة أخرى إلى أعلاه، حسب الأسطورة)، لكن حمل لطفي لصخرته كان ذا جدوى إذ أصبح الطفل في النهاية قادرا على أداء بعض المهارات البسيطة التي علّمها له الأب، حتى وصل إلى أنه يستطيع أن يصور مقطعا كاملا، مثله في ذلك مثل الأب.
وإذا كان العنوان هو مفتاح النص -كما تقول القاعدة النقدية المعروفة- فإن اختيار اسم “في عينيا” اختيار واع مناسب لمحتوى الفيلم، فالعين هي شباك القلب وحينما استطاع الطرفان التواصل بقلبيهما استطاعا التواصل بعينيهما.