عرض كتاب “العبودية المختارة” لاتيان دو لا بويسيه.. قراءة في سيكولوجية الطغاة والشعوب المستكينة (بودكاست)
الكتاب يتضمن نقدا لاذعا للطغاة وتقريعا للشعب الذي سلم رقبته لهم
“العبوديىة المختارة” أو العبودية الطوعية كما يترجمها البعض، كتاب في هيئة مقال مطول، حرره “اتيان دو لا بويسيه” قبل ما يقارب خمسة قرون، وقيل أن الرجل عندما كتب المقال كان في سن السادسة عشر وهناك من قال الثامنة عشر، لكن رغم حداثة سنه إلا أن المقال ظل منذ ذاك الوقت من أهم المراجع في العلوم السياسية وشؤون الحكم إلى يومنا هذا، كما أن المقال ينمّ عن ثقافة موسوعية لدى صاحبه، وهو ما يجعله كتابا متفردا يستحق أن يجد مكانا له ضمن سلسلة الكتب التي نقدمها في هذه النافذة الإذاعية.
صدر الكتاب بعد وفاة صاحبه اثر مرض عضال لم ينفع معه علاج وهو ما زال في ريعان الشباب، بالكاد كان قد بلغ 32 سنة، لكن، رغم ضآلة هذه السنوات من حياته إلا أنها كانت حبلى بالإنتاج الفكري والإبداعي، حيث كان الرجل شاعرا ومفكرا وضليعا في القانون، وقد عينه ملك فرنسا هنري الثاني قاضيا وهو في الثالثة والعشرين من عمره لم يبلغ بعد السن القانوني لتولي هذا المنصب.
يتطرق “دو لابويسيه” في هذا الكتاب الذي نشره صديقه ميشيل دي مونتاني في كتابه “مقالات” بعد سنوات من وفاته إلى الأسباب التي تجعل الطغاة يتمادون في غيهم وطغيانهم، ويرى أن قوة الحكام والطغاة لا تنبع من ذاتهم، ولا من قوة خاصة يحوزونها لوحدهم دون الآخرين، بل الشعب هو من يمنح لهم تلك القوة لممارسة استبدادهم، “إن الشعب هو الذي يسترق نفسه بنفسه، وهو الذي يذبح نفسه بيده، إذ لمّا كان يملك الخيار بين أن يكون عبدا أو أن يكون حراً، تخلى عن حريته ووضع القيد في عنقه، ولما كان بوسعه أن يعيش في ظل قوانين جيدة متمتعا بحماية الدول، فضّل العيش في ظل القلق والاضطهاد والظلم لمجرد إرضاء الطاغية، إن الشعب هو الذي يرضى ببؤسه لا بل يسعى وراءه”.
يذهب دو لابويسيه في كتابه إلى الحديث عن ثلاثة أصناف من الطغاة يصعب التمييز بينها رغم الاختلافات البسيطة: “صنف يحكم لأن الشعب قد انتخبه، وصنف انتزع المُلك بقوة السلاح، وصنف ثالث جاءه المُلك بالوراثة.”، ويسترسل مفصلا في الموضوع، أن من قلّده الشعب زمام الحكم، يبدو أن احتمال طغيانه اخف، لولا أنه حالما يرى نفسه مرفوعا إلى مقام أعلى من الآخرين، فتغويه العظمة، ويعقد العزم على أن لا يتزحزح عن كرسيه أبدا، ثم ما يلبث أن يمرر السلطة التي منحها إياه الشعب إلى أبنائه، وما أن يأخذ الأبناء الحكم حتى يتفوقوا في ارتكاب كل أنواع الرذائل متفوقين في ذلك على الطغاة الآخرين، ويعملون على تعزيز العبودية وصرف أذهان رعاياهم عن فكرة الحرية حتى ينسوها على الرغم من قرب عهدهم بها.
أما الطغاة الذين وصلوا إلى الحكم بقوة السلاح إنما يسيرون في المُلك كما يسيرون في أرض مفتوحة ويعاملون الشعب كما لو انه غنيمة حرب. أما من تقلدوا المُلك بالوراثة فهم ليسوا أفضل من هؤلاء، لأنهم نشأوا في حضن الطغيان، ورضعوا مع الحليب طبيعة الطاغية، وهم لم يرثوا الحكم فقط، بل ورثوا أيضا العبيد الذين يحكمونهم.
وخصص دو لا بويسيه حيزا مهما من كتابه للحديث عن حاشية الطغاة، ونبّه إلى أن الطرفين تجمعها المصلحة المؤقتة وليست الصداقة، كما أن العديد من الطغاة قتلتهم حاشيتهم، والعديد من هؤلاء قتلهم الطغاة، “وذلك على وجه اليقين أن الطاغية لا يُحِب ولا يحَب. فالصداقة اسم مقدّس، ولها حرمة، ولذلك لا تقوم إلا بين الأفاضل ولا تكون إلا بالتقدير المتبادل، ولا تصان بإسداء المعروف وإنما تديمها الحياة الفاضلة”.
ويذهب إلى أن الشعب يمكن أن يسقط الطغاة بدون عنف، فقط أن يمتنع هذا الشعب عن الاستمرار في منح الحكام أسباب طغيانهم، وأن يكفوا عن العطاء الذي يبني بواسطته الطغيان قلاع استبداده. “إن هذا الطاغية ما من حاجة إلى محاربته وهزيمته؛ فهو مهزوم من تلقاء ذاته، إن لم ترض البلاد باستعباده لها، كما لا يتعيّن انتزاع شيء منه، بل يكفي الامتناع من إعطائه أي شيء، وما من داع لأن تجهد البلاد نفسها لتفعل شيئًا لمصلحتها، شريطة أن لا تفعل شيئًا ضد مصلحتها.” ويضرب مثلا في ذلك بالنار إذ كلما ألقينا فيها الحطب ازدادت اشتعالًا؛ وبالمقابل لسنا بحاجة إلى أن نصبّ عليها الماء، يكفي أن لا نمدها بالحطب، حينها لا تجد ما تأكله فتأكل نفسها بنفسها وتخبو، كذلك الطغاة: كلما نهبوا ازدادوا طمعًا وعاثوا فسادًا وتخريبًا. لكن، إن لم يعطهم الناس شيئا، ويكفوا عن طاعتهم فمن دون قتال وضرب يصبحون عراة ومهزومين.
ويرى أن الناس، مادام فيهم شيء من الإنسان لا يستسلمون للطغاة بسهولة، بل يفعلون ذلك إما مكرهين تحت تهديد السلاح والموت، أو مخدوعين. كما أنه يستحيل على الحاكم العاقل الحر استعباد شعبه، إلا إذا كان هو نفسه يعيش حالة الاستعباد وفي خوف دائم من شعبه، فيعمد إلى سلك طريق الترهيب والعنف لقمع الاحتجاجات والتمرد، ويسعى إلى تقوية سلطته بالقمع والحيل، والكذب والإعلام الفاسد، والمهرجانات المنحطة والحفلات الشعبية السخيفة، لتخدير الناس وتنويمهم.
وينتقد دو لا بويسيه بشدة اعتماد الطغاة أساليب مخاتلة لخداع الناس ودفعهم إلى الإذعان لهم، بدءا من الخرافات التي تصنع هالة مقدّسة حول القدرات المُعجزة للطغاة، مرورا بالخطابات الكاذبة إذ أنهم “لا يقترفون شرًا إلا مهّدوا له ببعض العبارات الجميلة عن المصلحة العامة ورفاهية الجماعة” ، وصولا إلى توظيف الدين، حيث يحرص الطغاة “على أن يضعوا الدين أمامهم؛ ليحتموا به، ولو استطاعوا لاقتبسوا شيئًا من الألوهية لإسناد حياتهم الشريرة”.
إن “دو لا بويسيه” في كتابه هذا وجّه نقدا مزدوجا، نقدا لاذعا للطغاة، وتقريعا للشعب الذي سلم رقبته لهم، بيد أن الوصفة التي قدّمها للتخلص من الطغيان فيها الكثير من الرومانسية، يصعب تنزيلها على أرض الواقع، كما أنها وصفة لم تطرح خارطة طريق واضحة، بل تركت كل شيء في يد الشعب هكذا بصورة هلامية ليتخلص من مضطهديه عن طريق العصيان المدني والمقاومة السلمية، وهو ما جعل العديد من المهتمين بكتابه يعتبرونه من الأوائل الذين نظّروا للتيار الفوضوي.
رغم ذلك يبقى كتاب “العبودية المختارة” منارة لا يمكن الاستغناء عنه لفهم سيكولوجية الطغاة والشعوب المستكينة.