قصة التعاضدية العامة لموظفي الإدارات العمومية تستحق أن تروى، لأنها تقدم نموذجا واضحا عن مشتل الفساد ببلادنا؛ وكيف تُستنبت زهوره في الظل بعيدا عن شمس الحقيقة ورياح الشفافية، وكيف تسهم السياسة والقضاء وحتى القانون في استطالة هذا الوضع المختل. كلنا يذكر محمد الفراع، الرئيس السابق للتعاضدية، الذي أدين بخمس سنوات بعد اتهامه باختلاس أكثر من 117 مليار سنتيم من أموال التعاضدية، قبل أن تبرئه محكمة الاستئناف من كل المنسوب إليه في 2016.
عندما جاء عبد المولى عبد المومني إلى رئاسة التعاضدية، في 2011، سبقته الكثير من شعارات تنظيف هذه الجمعية التي تبيض ذهبا، لكنه سرعان ما وجد نفسه في قلب اتهامات بتبديد أموال عشرات آلاف المنخرطين وعائلاتهم، وها نحن نرى الرجل، الذي كانت تصفه جريدة حزبه بـ«المناضل الذي خاض معارك كثيرة لمحاربة الفساد»، متهما بـ«الفساد» من لدن أصدقائه في التعاضدية، ومن لدن الجمعية المغربية لحماية المال العام، التي طالبت عبد النبوي بفتح تحقيق بخصوص «وجود شبهة اختلالات مالية وقانونية بالتعاضدية العامة لموظفي الإدارات العمومية تكتسي صبغة جنائية، كتبديد أموال عمومية، أو غيرها من الجرائم المعاقب عليها قانونا».
لنكن واضحين. إن الخروقات المهولة التي عرفتها التعاضدية، سواء مع الفراع أو عبد المومني، كان يمكن أن يرتكبها أي أحد غيرهما، ومازال ممكنا أن يرتكبها من سيأتي بعدهما. نعم، من الوارد جدا أن نضبط، يوما، يد من سيأتي بعد عبد المومني في جيوب منخرطي التعاضدية، وأنا هنا لست عرّافا ولست متشائما، لكن «المال السايب كيعلم السرقة». كيف ذلك؟ إن ظهير 1963 المنظم للتعاضد يعطي الحق للأعضاء المنتخبين في التعاضدية في القيام بالتدبير المالي والإداري، وهذا يجعلهم يصرفون المال ويراقبون أنفسهم! وحتى عندما يكثر اللغط والاحتجاج حول وجود فساد واختلالات، فإن وزير المالية قد يُفعِّل مسطرة المراقبة وقد لا يُفعِّلها، أو قد يُفعِّلها ثم يأتي ويقول -في إطار تقدير أو تواطؤ سياسي- إن ما عُثر عليه مما يعتبره البعض جرائم جنائية، هو مجرد اختلالات بسيطة لا تستوجب المحاسبة، وهذا حدث في هذه التعاضدية كما يحدث في غيرها. ومن ينسى نذكره بتقرير المفتشية العامة للمالية لسنة 2009، والذي وقف على أن محمد غيور، رئيس التعاضدية العامة للتربية الوطنية، يستفيد من تعويض يصل إلى 4 ملايين سنتيم في الشهر، منذ سنة 1987، رغم أن الظهير المنظم للتعاضد يؤكد أن العمل داخل التعاضديات تطوعي. كما وقف التقرير نفسه على اختفاء أزيد من مليارين وثلاثمائة وأربعين مليون سنتيم من مالية تعاضدية غيور.
إن أي طرف يوجه اتهامات بوجود اختلالات مالية، أو تلاعب في المحاضر، أو التزوير أو التبذير أو الاختلاس إلى المسؤولين عن هذه التعاضدية أو تلك، يجب ألا ينسى مسؤوليات جهات أخرى تواطأت بالفعل أو بالصمت مع المسؤولين في هذه الاختلالات. لقد تحدث برلمانيون عن زميلهم الذي وقف في اجتماع إحدى لجان مجلس المستشارين يقول: «إننا ندافع عن عبد المولى عبد المومني لأنه شغل لنا 40 مستخدما في التعاضدية»! إن صدور مثل هذه التصريحات عن برلمانيين يجعل من حق منخرطي التعاضدية أن يتحدثوا عن مؤامرة «ترقاد» مشروع مدونة التعاضد، التي لم تر النور إلى الآن، والتي يعني خروجها فطام المنتخبين التعاضديين عن «بزولة» التدبير الإداري والمالي للتعاضدية، وإسناده إلى إدارة مستقلة. إن تأخر صدور مشروع مدونة التعاضد يثير أكثر من علامة استفهام حول الجهة أو الجهات التي لها الأغلبية في مجلس المستشارين.
من ناحية أخرى، هل كان بإمكان عبد الممني، لولا تغاضي وزارتي التشغيل والمالية، أن يستمر في بسط يديه في إدارة شؤون التعاضدية على أجهزة غير شرعية، وتبديد مبالغ ضخمة من أجل تنظيم جموعات عامة غير قانونية، تنظم بفنادق من فئة 5 نجوم، بمبالغ تتجاوز مائتي مليون سنتيم، وأن يعقد صفقات لا تحترم فيها معايير المنافسة والشفافية، وهي النقطة التي وقف عندها تقرير المفتشية العامة للمالية؟ وهل كان بإمكان عبد المومني اقتناء حافلات وسيارات، وإعطاؤها لوحات بأرقام سيارات الدولة (M rouge)، رغم أن التعاضدية جمعية خاضعة للقانون الخاص، وليست مؤسسة تابعة للدولة، لولا تواطؤ عدة جهات، بينها وزارة التجهيز والنقل.
لقد تجنبت، في هذا المقال، الوقوف على الكثير من التجاوزات التي رصدتها تقارير مختلفة، منها تقرير هيئة مراقبة التأمينات والاحتياط الاجتماعي (ACAPS)، وحاولت أن أظهر أن ما تعرفه هذه التعاضدية من اختلالات ما كان ليكون لولا تواطؤ جهات عديدة، لأسباب بعضها انفضح، والباقي سيأتي يوم يسقط القناع عن أوجه أصحابها.