نظم المركز المغربي لحقوق الإنسان والملتقى العام للمنظمات الأهلية العربية الإفريقية ندوتين علميتين بفضاء الاجتماعات بجامعة القاضي عياض بمراكش، وذلك في إطار المبادرة المدنية الموازية للاجتماع السنوي للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي برسم سنة 2023، حيث تناولت الندوة الأولى موضوع: “التحولات الجيوسياسية بإفريقيا وأثرها على الوضع السوسيو-اقتصادي للشعوب الإفريقية”، فيما تناولت الندوة الثانية موضوع: “الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية وأثرها على واقع حقوق الإنسان والتنمية بإفريقيا: ظاهرة الهجرة نموذجا”.
وبعد الكلمة الافتتاحية لخديجة بركات، رئيسة الملتقى العام للمنظمات الأهلية العربية والإفريقية، التي رحبت من خلالها بالحضور والمتدخلات والمتدخلين، قدم رئيس الجلسة، عبد الإله الخضري، رئيس المركز المغربي لحقوق الإنسان، عرضا تمهيديا حول موضوع الندوة الأولى، الذي يتناول التحولات الجيوسياسية التي تشهدها القارة الإفريقية، وما ترتب عنها من تداعيات اقتصادية واجتماعية وثقافية على الشعوب الإفريقية، لتبدأ عروض المتدخلين والمتدخلات.
في البداية، تناول الكلمة الأستاذ إدريس مرون، وزير سابق وقيادي سياسي في حزب الحركة الشعبية، تطرق من خلالها لموضوع: “التحديات السياسية والاجتماعية والعرقية وإشكاليات الديمقراطية في الدول الإفريقية”، حيث أكد أن القارة الإفريقية، المكونة من 54 دولة، عانت تحت نير الاستعمار، وبدأت نيل استقلالها بين 1950 و1980، مشيرا إلى أن “مخلفات الاستعمار كانت عديدة وثقيلة، أهمها: إثنيات متعددة، مجتمعات هشة، ترحيل ونهب للثروات الطبيعية الإفريقية…”.
والأخطر من ذلك، يورد المتدخل أن “الاستقلال كان غير مكتمل، لأنه كان مشروطا بالاستمرار في استغلال الثروات، وتحرك المستعمر بحرية داخل بلدان إفريقيا اقتصاديا وأمنيا وعسكريا، بما يشمل التحكم في العملة، ما أدى إلى بزوغ حكومات في خدمة المستعمر، غير ديمقراطية ومتشبثة بالسلطة، ما دفعها إلى تزوير الانتخابات من أجل البقاء في السلطة، وتبني سياسات بعيدة عن الديمقراطية والشفافية ولا تعترف بالتعددية، سواء السياسية أو الإثنية”.
المداخلة الثانية ألقاها الدكتور محمد نشطاوي، أستاذ الجامعي ورئيس مركز تكامل للدراسات والأبحاث، وتناول من خلالها موضوع: “الأمن الغذائي في إفريقيا، تحالف الطبيعة والفرص الضائعة”، موضحا أن “إفريقيا تعتبر أغنى قارة في العالم، لكنها في الواقع أفقرها وأكثرها تخلفا، ومن إحدى مظاهر هذا التخلف: غياب الأمن الغذائي”، وأردف بأن “الأفارقة ضيعوا فرص الأمن الغذائي بأنفسهم، إذ إن أزيد من 146 مليون شخص يعانون من سوء التغذية”، مبرزا “دور القوى الاستعمارية، كفرنسا، الحيوي في ارتهان القارة إلى مصالحها وحرمانها من مقدراتها، ما يتجسد في ما تتمتع به شركات فرنسية من نفوذ وأولوية في استغلال الثروات واكتساح السوق الإفريقية”.
الدكتور زين العابدين خصص عرضه لمناقشة “الماضي الأليم لإفريقيا وحاضرها الواعد وغدها المشرق”، وقدم المغرب نموذجا لذلك، إذ أشار في معرض مداخلته إلى “الأوضاع الأليمة” التي عاشتها القارة الإفريقية، باعتبارها “ضحية للإمبريالية”، لافتا إلى مؤتمر برلين في نوفبر 1884 إلى فبراير 1885، حيث برزت مقاومة الاستعمار لمواجهة الماضي الأليم، “وخلال هذه المرحلة عرف المغرب تقليصا لمساحته، وسيطرة تامة على قطاعه الفلاحي وعلى المعادن التي تزخر بها البلاد، فضلا عن سياسة قمع الحريات التي انتهجها المستعمر”.
بعد ذلك، تقدمت الدكتورة زينبة بنحمو بمداخلة بعنوان: “آثار الأوضاع الإفريقية السياسية والاقتصادية على الأوضاع الاجتماعية للمرأة”، اعتبرت من خلالها المنطقة الإفريقية منطقة توترات بامتياز، حيث غياب الأمن السياسي والاقتصادي، فيما اعتبرت المرأة الأكثر تضررا.
وسردت بنحمو بعض مظاهر الحيف الذي تتعرض له المرأة الإفريقية، موضحة أن “المشاركة السياسية للمرأة في كل الدول الإفريقية مجرد مشاركة صورية، بل ربما هناك سوء نية من جهة الرجل، قد يرقى في أحايين كثيرة إلى استغلال المرأة ليس إلا”، وزادت: “إذا كانت التمثيلية العددية في إفريقيا ليست على ما يرام فإن المرأة في بعض الدول الإفريقية مثل رواندا تتبوأ مكانة سياسية مهمة، حيث نجدها في 60% من المناصب السياسية بهذا البلد؛ إلا أن القرار السياسي من طرف المرأة مازال بعيد المنال”.
وفي ختام مداخلتها، أكدت المتدخلة ذاتها أن “التحولات السياسية التي شهدتها القارة الإفريقية كان لها ومازال تأثير قوي ومباشر على الأوضاع الاجتماعية للمرأة، سواء بالإيجاب أو بالسلب”.
الأستاذ خالد همورة أكد في معرض مداخلة له بعنوان ”إفريقيا مشتل واعد للشباب والرياضة” أن القارة الإفريقية شبابية بامتياز، “حيث من المتوقع أن تصل نسبة الشباب في أفق سنة 2030 إلى 42% ، وهذه النسبة لها تأثير كبير وهائل على مستقبل القارة، قياسا بباقي القارات، التي ستعاني في الأفق المنظور من تناقص مهول في نسبة شبابها”، وزاد مستدركا: “إلا أن المعضلة الرئيسية تكمن في ميل نسبة كبيرة من الشباب الأفارقة إلى الهجرة، ما يجعلهم عرضة لخطر الموت والتشرد والاتجار بالبشر”، مشيرا إلى أن “الرياضة تعتبر دعامة اقتصادية ذات أهمية قصوى في بناء الشباب الإفريقي”، وأعطى مثالا حول ذلك بقرار الاتحاد الدولي لكرة القدم منح شرف احتضان كأس العالم للمغرب، إلى جانب كل من البرتغال وإسبانيا، “وهو مؤشر على ريادة القارة الإفريقية في المجال الرياضي وليس فقط المغرب. إلا أن ذلك لا ينفي وجود نقائص في السياسات الرياضية في كل الدول الإفريقية، في مختلف أصناف الرياضات التي تصل إلى 40 صنفا”، وفق تعبيره.
وقد تناول الكلمة الدكتور عبد الكريم بلكندوز، الأستاذ المحاضر في الاقتصاد والباحث في مجال الهجرة، ليقدم عرضا حول “هجرة الأدمغة الإفريقية نحو أوروبا”، حيث أشار إلى الميثاق الأوروبي للهجرة واللجوء بين إفريقيا والاتحاد الأوروبي، الذي “تمت صياغته خريف 2020، ويتضمن أهدافا خطيرة ضد مصالح القارة الإفريقية، مبنية على الهجرة المختارة، تستنزف مقدرات القارة من الرأسمال البشري”، مردفا: “كما يسعى الميثاق بالدرجة الأولى إلى معالجة ما تعانيه الدول الأوروبية المتواجدة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط من تدفقات الهجرة وتداعيات اللجوء”، ومنوها إلى أن “السياسات الأوروبية رغم كونها مرتبطة بتوجهات التيار الذي يتسلم السلطة، مثل اليمين المتطرف، فإنها تبقى لها الأهداف الكبرى نفسها”.
وفي سياق عرضه، أكد المتدخل ذاته أن “المغرب أصبح يلعب للأسف دورا نموذجيا في معالجة الهجرة وفق المنظور الأوروبي، من خلال مؤسسة وكالة إنعاش الشغل، التي أصبحت وكالة لتصدير الكفاءات”، موردا أن “أوروبا لم تعد تكتفي بنهب الثروات الطبيعية، بل انتقلت إلى استنزاف الكفاءات الإفريقية والطاقات البشرية”، ومنوها إلى أن “الحرية لا تكمن فقط في الهجرة إلى البلدان الأوروبية، بل كذلك في المساهمة في تنمية الاقتصاد الوطني، فالبعض يعتبر ميثاق الهجرة واللجوء الأوروبي غير ملزم، لكن يبدو أن الأوروبيين يوظفون كل المحفزات اللازمة لتنفيذ إستراتيجيتهم المعلنة في توصيات الميثاق، بغرض استنزاف المواهب والطاقات البشرية الإفريقية”.
بعد ذلك، قدم الأستاذ عبد الله محرز عرضا بعنوان ”دور الشباب في التنمية الاقتصادية المحلية بإفريقيا من خلال دعم وإدماج مقاولات الشباب”، ممهدا محاضرته برؤيته المتمثلة في كون إفريقيا “تطغى عليها ثقافة الولاء بدل ثقافة الكفاءة”، حيث عرج إلى استحضار جملة من الاختلالات التي تعتري السياسات الإفريقية المتعلقة بالطفولة والشباب، مشيرا إلى أنها “سياسات تغرس في الجيل الصاعد ثقافة النجاح على حساب الآخر”.
واعتبر المتدخل ذاته أن “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية نموذج يحتذى به بالنسبة للدول الإفريقية، من خلال سعيها إلى تأهيل الشباب للاندماج الاقتصادي، وإطلاق مشاريع عملية لتطبيق المخططات التنموية، مبنية على تكافؤ الفرص وتوفير الفرص للشباب، مع اعتماد مقاربات مختلفة في تأهيل الشباب، عبر تطوير الاقتصاد التضامني والاجتماعي لفائدة الفئات الهشة”، منوها إلى أن “هذه المقاربة الاقتصادية والتنموية تكتسي أهمية إستراتيجية بالنسبة للدول الإفريقية، من أجل النهوض باقتصادها وبشرائحها الاجتماعية الهشة”.
وفي مداخلته بعنوان ”مؤشرات لا تبشر بخير.. إفريقيا أغنى قارة لكنها أفقر قارة”، أكد الدكتور عبد اللطيف الإدريسي أن “السياسات التنموية تبقى مرتبطة بواقع حقوق الإنسان، لكن في إفريقيا هناك محاولة لتحقيق التنمية دون مراعاة حقوق الإنسان، وهذه المقاربة لا تساعد على تحقيق التنمية المنشودة، لأن التنمية ليست إعلانا عن النوايا الحسنة، فالرأسمال المادي لا يكفي لسعادة الإنسان، بل ينبغي أن يكون الاعتماد على الرأسمال البشري، وعلى الحرية السياسية والاقتصادية، باعتبارها إحدى مقومات التنمية الديمقراطية الحقيقية”.
وعلى ضوء مختلف المداخلات التي أثرت الندوتين، خرج المشاركون فيها بالتوصيات التالية:
تعتبر التحولات الجيوسياسية التي تشهدها القارة الإفريقية منعطفا إستراتيجيا دقيقا، يحتاج إلى تضافر جهود النخب السياسية والثقافية بالقارة، من أجل استعادة الثقة بين الحكومات وشعوبها، من خلال إعمال مبادئ الديمقراطية في صناعة القرارات السياسية واحترام مبادئ حقوق الإنسان الكونية.
على الدول الإفريقية أن تحصن استقلالية قرارها من التدخلات الأجنبية، وأن توفر الشروط اللازمة من أجل تطوير العلاقات بينها.
ينبغي على الدول الإفريقية:
معالجة الاختلالات المؤسساتية التي تتخبط فيها.
تطوير سبل التعاون وبناء جسور الثقة بينها، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وتجاوز الخلافات البينية، عبر الحوار والمفاوضات، بما يخدم مصالح شعوبها.
وضع مخططات تنموية إستراتيجية مندمجة ومتكاملة بينها، على نحو يوفر فرص التنمية والازدهار، وخاصة في مجال الطاقة والفلاحة.
تطوير مناهج التعليم من خلال تضافر الجهود في ما بينها، وفق ما تمليه حاجياتها وتطلعاتها، من أجل مواجهة التحديات والإشكالات التي تعترض تنميتها وازدهارها.
دعوة المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) إلى تخفيف أعباء المديونية على القارة الإفريقية، باعتبارها أحد أهم العوامل المسببة لفشل برامج التنمية بالقارة، ما يتسبب في النزاعات وفي تفاقم ظاهرة الهجرة والنزوح واللجوء.
يجب وضع سياسات تراعي تطلعات الشباب الإفريقي، تساهم في خلق فرص الشغل ودعم ريادة الأعمال، عن طريق سياسات مبتكرة واعتماد الابتكار الاجتماعي، باعتباره دعامة لتقليص الفوارق الاجتماعية والعلمية والعملية.
التوصية الأخيرة: يجب رفض الميثاق الأوروبي للهجرة واللجوء، الذي فرض على الدول الإفريقية منذ 2020، والمطالبة بميثاق متوازن يراعي مصالح كلتا الجهتين، ويحافظ على الرأسمال البشري للقارة الإفريقية.