حرب الثلاثين سنة عندما حولت الطائفية الدينية أوروبا إلى قارة جرداء
مجلة أصوات
كريم الهاني
لم يُكن الإمبراطور ماتياس الثاني يملك ذرية يولّيها العهد، فعيّن ابن عمه فيردناند وكان كاثوليكيا مُتعصباً.
أخاف تعيينُ فيرديناند بعضَ زعماء البروتستانت في بوهيميا (والتي تقع في التشيك) من فقدان الحقوق الدينية، التي كان قد منحهم إياها الإمبراطور رودولف الثاني، الذي خلفه ماتياس، في وثيقة تُدعى “رسالة الفخامة”.
… وصدق حدسهم حين صار الأمر إلى فيرديناند، فقد أراد أن تكون الكاثوليكية الرومانية الديانة الوحيدة في الإمبراطورية، واعتزمَ القضاء على أي معارضَةٍ دينية!
من درس التاريخ ويُتابع هذه الصّراعات التي تكادُ لا تنتهي في الشرق الأوسط منذ الحرب العراقية الإيرانية، يجد في ذلك نُسخة عن حرب الثلاثين عاما التي أتت على أخضر أوروبا، يابسها… وأزرقها لو جاز!
… أوروبا، نفسُها، التي نزورها اليوم أو نشاهد صُوّرها على الأنترنت، فنذهل للحضارة؛ نُمنّي النفسَ بقبسٍ منها، عاشت فترة، أصبح دويّ الأسلحة فيها، حدثاً مألوفا كالليل يجنح في آخر اليوم!
بدأت الحرب تلك عام 1618م، وانتهت عام 1648م بالصلح الشهير الذي يحمل اسم المدينة الألمانية وستفاليا.
عدد ضحايا حرب الثلاثين عاما يزيد نسبيا عن ضحايا القارة في مُجمل الحربين العالميتين، الأولى والثانية… حتى إن مؤتمرا عُقد في أعقاب الحرب، سمح للقساوسة وكهنة المؤسسات الدينية بالزواج… وبالتّعدّد لمن أفلت من عامة الرجال!
في كتابه “حرب الثلاثين سنة، المأساة الأوروبية”، يُقدّر المؤرخ البريطاني، بيتر ويلسون، عدد ضحايا هذه الحرب بـ1.8 مليون جنديّ وما لا يقل عن 3.2 مليون مدنيّ.
كانت حرباً ضَروساً داخل الإمبراطورية الرومانية الجرمانية انتهت بفقدان أزيد من خُمس سُكّانها… ولم يتخلّف عنها سوى إنجلترا وروسيا، التي كانت تُحسب على القارة.
ضَمّت الإمبراطورية هذه، يومها، ألمانيا كما نعرفها اليوم، النمسا، التشيك، بعض مناطق الدانمارك، فرنسا، بولندا، وجزءً من شمال إيطاليا.
الذي يعنيه ذلك، يقول ويلسون، أن عدد ضحايا حرب الثلاثين عاما يزيد نسبيا عن ضحايا القارة في مُجمل الحربين العالميتين، الأولى والثانية.
… حتى إن مؤتمرا عُقد في أعقاب الحرب، سمح للقساوسة وكهنة المؤسسات الدينية بالزواج… وبالتّعدّد لمن أفلت من عامة الرجال!
أيّ حربٍ هذه! وما الذي يا تُرى أشعلَ فتيلها؟
مع أن ويلسون لا يعتبره سببا كافيا لنشوء حرب، إلا أنّ الشائعَ: خلفيّةٌ طائفية! لكنّها لا شكّ استعرت بعد ذلك لأسباب عديدة.
… ثلاثون عاما فترةٌ كافيةٌ لتنشأ الحرب في صورة نزاع ديني داخلي وتنتهيّ نزاعا سياسيا بين الدول من أجل الأرض والسلطة!
في أسباب الحرب…
جاء سلامُ أوغسبرغ، عام 1555م، ليُسوي المسألة الدينية في الإمبراطورية… التسوية هذه خضعت لمبدأ يُدعى “Cujus regio, ejus religio” (لكل إقليم دينه).
… أي أنّ لكلّ أمير من أمراء الإمبراطورية الحقّ في تفضيل دينٍ يختاره. هذا الدين يُصبح بعد ذلك إلزاميا لكل رعاياه. أمّا من يرفضه منهم، فيمكنُه أن يهاجر إلى دولة أخرى تمارس عقيدته.
لكنّ الإمبراطورية قدّمت خيارين وحسب: الكاثوليكية الرومانية واللوثرية[1]، واستبعدت الكالفينية[2]، التي كانت ثالث المعتقدات انتشارا آنذاك في ألمانيا.
في كتابها “السياسة والدين وبناء الدولة”، ترى السويسرية بياتريس نيكولييه أن سلام أوغسبرغ كان نُقطة تحوّلٍ مهمة في التاريخ الأوروبي.
… ذلك أنّ الإمبراطورية أضْفت، في سابقة من نوعها، طابعا مؤسسيا على انشقاق الوحدة المسيحية.
على أنّها نجحت في إقرار السلم لأزيد من 60 عاما… سابقةٌ لا تفوقها فترة في تاريخ ألمانيا سوى تلك التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
حدث ذات يوم، عام 1618م، أن أرسل الإمبراطور فيرديناند اثنين من مستشاريه إلى براغ، فقبض عليهما البوهيميون وكان مُعظمهم بروتيستانتيون، ثمّ حاكموهما صُوريا وألقوا بهما من نافذة القصر هناك على ارتفاع أكثر من 20 مترا!
أو لنقل إنّ انشقاق الوحدة احتاج للفترة تلك حتى يختمر… ثم عام 1608م، تشكّل ما يُعرف بـ”الاتحاد الإنجيلي” وضمّ قسما من البروتستانت، وردّ عليه الكاثوليك عاما بعد ذلك بتأسيس حلف يُدعى “العُصبة المقدّسة”.
… فانقسمت الإمبراطورية رسميا، منذ ذاك، إلى مُعسكريْنِ دينيين!
الرّميُ من النافذة… الشرارة الأولى!
لم يُكن الإمبراطور ماتياس الثاني يملك ذرية يولّيها العهد، فعيّن ابن عمه فيردناند وكان كاثوليكيا مُتعصباً.
أخاف تعيينُ فيرديناند بعضَ زعماء البروتستانت في بوهيميا (والتي تقع في التشيك) من فقدان الحقوق الدينية، التي كان قد منحهم إياها الإمبراطور رودولف الثاني، الذي خلفه ماتياس، في وثيقة تُدعى “رسالة الفخامة”.
… وصدق حدسهم حين صار الأمر إلى فيرديناند، فقد أراد أن تكون الكاثوليكية الرومانية الديانة الوحيدة في الإمبراطورية، واعتزمَ القضاء على أي معارضَةٍ دينية!
وقفَ مثلا في وجه بناء عدد من الكنائس البروتستانتية… ثمّ حدث ذات يوم، عام 1618م، أن أرسل اثنين من مستشاريه إلى براغ، فقبض عليهما البوهيميون وكان مُعظمهم بروتيستانتيون، ثمّ حاكموهما صُوريا…
… وألقوا بهما من نافذة القصر هناك على ارتفاع أكثر من 20 مترا!
كانت تلك الحادثة شرارةَ حرب الثلاثين عاما… وتُعرف في سِجلّات التاريخ بـ”الرمي من نافذة براغ” (كان من عادة سكان بوهيميا أن يعاقبوا المذنبين بالرمي من النوافذ).
المرحلة البوهيمية
… وهل يمرّ إلقاء ممثلي الإمبراطور من النافذة دون أي ردّ؟
سيّر فيرديناند الثاني قواتَه لقمع ثورة البوهيميين، فلم يكن أمام هؤلاء سوى حشد دعم خارجي، فاتجهوا إلى فريدريك، وكان أحد زعماء البروتستانت الكالفينيين، يحكم ولاية تُدعى “بلاتين”.
توّج البوهيميون فريدريك وتزعّم قواتهم واستقدم أخرى… ولقّبوه بـ”فريدريك الخامس”.
… ولا بذلك استطاعوا شيئا أمام فيرديناند، الذي دعمه البابا مالياً، واستقدم قوات قُدّر قوامها بنحو 50 ألف مقاتل.
حين اجتاح بوهيميا، عام 1620م، التقى الجيشان في موقعة تدعى “الجبل الأبيض” (قرب براغ) انتهت بدحر قوات فريدريك.
يُعرف فريدريك هذا، بالمناسبة، بـ”ملك الشّتاء” تاريخيا، ذلك أنه لم يستمتع بتاج بوهيميا سوى لفترة قصيرة صادفت فصل الشتاء.
إثر انتصاره، نفى فرديناند الثاني عددا كبيرا من أمراء البروتستانت، وبدأ “يُكثلِكُ” بوهيميا بإرغام سكانها على اعتناق المذهب الكاثوليكي، وكان أن فضّل معظمهم الهجرة فأخلوا ديّارهم للكاثوليكيين…
… حتى انحلّ “الاتحاد الإنجيلي”، فانتهت زعامةُ البروتيستانت إلى ملك الدانمارك كريستيان الرابع.