يحدو أغلبهم (بافتراض حسن النية ) أو بعضاً منهم (بنظرةٍ واقعية) أملٌ صادق في إحداث أي تغييرٍ حقيقي على الأرض، أو فتح ثقبٍ يتسرب منه الهواء إلى الفضاء العام المحاصر والمخنوق تماماً بقبضة النظام الغليظة، بدأت جلسات مجلس أمناء الحوار الوطني في الانعقاد في مصر، حتى وصلت إلى الرابعة هذا الأسبوع.
عُقدت الأولى في مقر الأكاديمية الوطنية للتدريب التابعة لرئاسة الجمهورية منذ تأسيسها في 2017، وهو أمرٌ لافتٌ في نظري، إذ أزعم صعوبة الادعاء بأي حيادية هنا، بل أرى في ذلك مؤشراً ودلالةً على أين يكمن الثقل، ومن الذي يمسك زمام الأمر وتجتمع شتى الخيوط في يديه، هذا بالطبع لمن لم يزل لديه أي شكٍ عقب قرابة التسعة أعوام هي عمر الانقلاب.
اجتمع «الأمناء» في قاعةٍ كبيرةٍ نوعاً ما، جلسوا وسُلطت عليهم الأضواء، واحُتفي بهم، وقد دشن الدكتور ضياء رشوان نقيب الصحافيين والمنسق العام للحوار الجلسة، وقد صدّر ذلك بكلمةٍ تحفل بكل الرطانة الوطنية عن الأهداف الديمقراطية للحوار وإعادة اللحمة إلخ، ولا بد من أن أعترف بأنني كنت أغفو وأفيق لأجده لم يزل يتكلم.
ومن اللافت أن جلسات الحوار المنعقدة والمتعاقبة تلك تتم، بينما يتم الإفراج عن بعض المعتقلين، آحادٌ ممن سميتهم دائماً بـ»مشاهير المعتقلين»، أي أولئك الذين يجدون من ينادي بحريتهم من جمعياتٍ وهيئاتٍ ومراكز حقوقية وحلقات المثقفين، وليسوا المعتقلين من العامة، وفي ظل تلك التطورات أجده لزاماً أن نحاول التحليل والتساؤل عما يمكن أن نقرأه في هذا المشهد، وهل يمثل خطوةً جادة نحو تغييرٍ حقيقي لطريقة وأسلوب ممارسة السلطة من قبل النظام؟
المهزومون
ينطلق المخلصون والجادون في هذا الحوار (أي غير المدسوسين من قبل أجهزة الأمن) من قاعدة أو مفهومٍ، معلنين أن النظام طاغٍ «متغلبٌ بالشوكة»، وقد أثبتت شتى سوابق تحديه ومحاولات الاصطدام به، لا فشلها فحسب، بل إنها مكلفةٌ ودامية، تستهلك المجهود والأعمار، إما تصفيةً أو اعتقالاً في ظروفٍ غير إنسانية يضحى الموت معها نعمةً وخلاصاً. لذا، فهم يرون في دعوة النظام للحوار فرصةً لا تعوض ولا يملكون رفاهية رفضها، كيدٍ ممدودة لهم لتغيير الأوضاع والحصول على بعض التنازلات أو المكاسب، لأن البديل يتجسد في: لا شيء تماماً، وهم يبررون ذلك بالواقعية السياسية وحساب ميزان القوة، مقابل الرؤى الأخرى غير الواقعية «الطوبوية» التي ترى الانعزال والمقاطعة؛ لوهلةٍ قد تبدو لوجهة النظر تلك وجاهتها، إلا أن تلك لا تلبث أن تتبدد بمراجعة سيرة ذلك النظام، مذ تولى السيسي، ومقدار عنفه وبطشه، كما أن حجتهم ذاتها تنقلب عليهم: ففي غيبة أي قوةٍ حقيقيةٍ، أو وزنٍ لهم على الأرض، ما الذي يدفع النظام لتقديم أي تنازلات؟ في الحقيقة إن منحاهم ذلك لا يصدر سوى عن إقرارٍ عميقٍ بالهزيمة، يسكنهم ويدفع بعضهم لاختيار التصديق وإقناع الذات، بأن ثمة أملاً في تغييرٍ حقيقي، وهم واهمون، فالنظام الذي يحتكر أدوات العنف ويملك كل القوة في غياب أي تنظيمٍ حقيقيٍ ذي شعبية تجعله يقف على أرضيةٍ جماهيريةٍ صلدة، لن يقدم تنازلاتٍ حقيقية، حتى إن تظاهر بذلك فسيكون ذلك مرحلياً ويستطيع سحبها متى شاء وانقضت الحاجة. لكن يظل السؤال: ما الذي يدفع النظام لاحتضان ذلك الحوار إذن إذا لم تكن لديه النية للتغيير؟
خليهم يتسلوا
لئن كان نظام السيسي في مجمل سلوكه، وما يُفهم من تصريحاته يصدر عن قناعةٍ بأن مساحة الحرية التي «سمح» بها مبارك هي ما أتاح الثورة وعبّد الطريق لها، ولئن كان من ثم سحق كل تلك المساحات وتعامل بفائض القوة اللامتناهية واللامتناسبة مع كل مظاهر السخط والاحتجاج، وحتى التساؤلات أو شبهات الانتقاد على وسائل التواصل الاجتماعي حبساً وتصفيةً، «القوة الغاشمة» كما قال السيسي في جهلٍ كاشف، فيبدو أنه إزاء الأوضاع الاقتصادية الحرجة والمتفاقمة السوء، قد قرر أن يرخي من غلظة قبضته، فيتظاهر بقدرٍ ما من المرونة لاحتواء أي مظاهر سخطٍ قد تنشأ، ويبعث رسائل للخارج بأنه يقوم بإصلاحاتٍ في بنيته السياسية. حين سمع مبارك بمجلس الشعب الموازي، رد هازئاً بكلمته الشهيرة «خليهم يتسلوا»، فلعل ضباط السيسي أو مشيريه اتسموا بالحكمة إذ قرروا أن يسمحوا بالتسلية، بل يدعون إليها، لكن على أرضيتهم وتحت نظرهم وفي رعايتهم، في ملعبهم الخاص التابع لرئاسة الجمهورية. غير أن استعراض المشهد لا يكتمل عند هذه الصورة فحسب، فثمة جانبٌ آخر، أو الوجه الآخر، الأكثر قتامةً، والحقيقي والواقعي جداً بدوره، فبينما يفرج عن البعض، آحاد كما أسلفت، لم يزل يعتقل الآلاف، بل عشراتها، حارماً إياهم من أبسط الحقوق كالرعاية الطبية، فقد استشهد المعتقل السياسي سيد عبد الفضيل أبوزايد في محبسه في سجن وادي النطرون منذ بضعة أيام، وقتل تحت التعذيب بالإسكندرية مصطفى منتصر حامد البيجرمي في قسم المنتزه ثالث، ولم يزل على سبيل المثال القريب يمنع الرعاية الطبية عن دكتور عبد المنعم أبوالفتوح، وهو من هو، رغم سنه وغياب أي سببٍ حقيقي لا تلفيقي لاعتقاله، ولم يزل يتلذذ بحبس وتعذيب علاء عبد الفتاح وأسرته ومحبيه. بالتالي، نستطيع دون تجاوز أن نقرر أنه لم يطلق دعوته للحوار تلك إلا ليخلق حاجزاً تتكسر عليه بعض أمواج النقد، وليوحي بانفراجةٍ ويتخلص من بعض الصداع بما يتيح له حرية أكثر في الحركة، فهو يطلق سراح البعض ليستمر في قتل وقمع آخرين. في يقيني الشخصي سوف تتحول جلسات الحوار الوطني تلك إلى «مكلمةٍ» لا أكثر (إذا تغاضينا عن كونها ذلك بالفعل منذ بداية الفكرة)؛ سيستمرون في التجمع والحديث وإصدار التوصيات، وسيبدو للخارج كأن شيئاً يحدث، وقد تقوم بدور «الوساطة» المعروف والشهير لدينا حيث تلجأ إليهم الأحزاب الرسمية بطلباتٍ للإفراج عن هذا أو ذاك ممن تساهلوا فقالوا كلمةً هنا وكتبوا أخرى هناك، مما عده النظام تطاولاً، وسوف يتسولون الإفراج عنهم «لأنهم سذج ومسالمون غير ضارين تماماً، لم يلجأوا للعنف ولم يقصدوا ما قالوا، وللإنصاف لعل في ذلك فائدةً نوعاً ما، لكن هذا كل شيء. إذا كان هناك ما يخشاه النظام فهو هبةٌ شعبية غير منظمة تشتعل نتيجة صعوبة المعيشة وغلاء الأسعار، لا المعارضة السياسية الهزيلة.
لم يطلق السيسي دعوته للحوار إلا ليخلق حاجزاً تتكسر عليه بعض أمواج النقد، وليوحي بانفراجةٍ ويتخلص من بعض الصداع بما يتيح له حرية أكثر في الحركة
قد أبدو قاسياً ومفرطاً في التشاؤم إذ لا أرى أفقاً ولا أرجو مكاسب حقيقية تترجم إلى تخفيف قبضة النظام وقبوله بالمشاركة السياسية أو، لا سمح الله، تداول السلطة، فالأشبه إلى ذهني في أهداف ذلك الحوار هو مصبات فيضان النيل وعلو منسوبه كتوشكى وغيره من الترع والقنوات ودورها الأساسي تلقي الكميات الزائدة من المياه، وكذلك الأمر مع ارتفاع منسوب الغضب، وسيمكن ذلك النظام والسيسي لاحقاً من الإجابة متبجحاً على أي ملاحظةٍ أو تساؤلٍ عن حقوق الإنسان بكلمتين سيُلقنهما من عينة «نحن دولة مؤسسات» ولدينا مؤتمر دائم للحوار الوطني، حيث الباب مفتوح للنقاش في كل شيء إلخ. إن مساحات الحرية والحقوق السياسية تُنتزع انتزاعاً بالقوة على الأرض، ولا تمنح عطية من رئيسٍ دموي باطش يعطي ويمسك متى شاء وحلا له. فرشتا مسحوق تجميل، هذا ما سيتمخض عنه الحوار في النهاية، إلا أن شيئاً لن يغير من عكارة الوجه ولا دمامة الخلقة ولا رداءة الطبع ولا قبح السياسة، ناهيك من كونه سيستغل لعرقلة أي فعلٍ عفويٍ جماهيري مهما بدت فرصه الآن بعيدة، إذ ستستغل اللجان ومجالس الحوار الشبيهة كحاجز عزلٍ يقف بين النظام والجماهير. على كلٍ، على سماجة المشهد فإنه لا يخلو من فكاهةٍ سوداء، خاصةً حين يتحقق الفشل، ويجد المشاركون أنفسهم مطالبين بتبرير خيارهم أمام الناس (وأمام أنفسهم في حالة من يبغون الصالح العام بالفعل)، وفي الفاصل أو الوقت الضائع الذي نعيش فيهم، فلنتسلَ نحن أيضاً بمشاهدة الناس يفضحون أنفسهم ويكشفون مزاجهم وألوانهم الحقيقية ولنتدبر ونتعلم من مشاهد السقوط.