“الظاهرة الغيوانية”.. ثورة فنية متجدرة في المشهد السوسيو-ثقافي المغربي
مجلة أصوات
تعد “ناس الغيوان”، التي تأسست في سبعينات القرن الماضي بالحي المحمدي بالدارالبيضاء، إحدى المجموعات الموسيقية الرائدة في الحقل الفني المغربي المعاصر، والتي شكلت بدايات “الزمن الجميل” لما أصبح يعرف بظاهرة المجموعات، حيث لم تعمل هذه الفرقة على إعادة إحياء الموسيقى بالمغرب فحسب، بل اضطلعت أيضا بدور حاسم في تأثيث المشهد الثقافي الشعبي خلال سنوات عديدة.
وبرزت “الظاهرة الغيوانية” في سياق اجتماعي وسياسي فريد من نوعه. ففي أواخر الستينات وبداية السبعينات، كان المغرب يعيش في خضم متغيرات سياسية واجتماعية وثقافية مع تطلعات كبيرة يغذيها التحرر من الاستعمار، حيث ساهم مناخ التغيير هذا في ظهور حركات ثقافية جديدة تجسد رغبات وهموم الأجيال الصاعدة.
وبحسب أستاذ الصحافة والإعلام بكلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق، حسن حبيبي، فإن مجموعة “ناس الغيوان” تتميز بنهجها الفني المبتكر الذي أثر بشكل عميق في الثقافة الشعبية والأنماط الموسيقية التقليدية، إلى حد أن هذا التأثير تجاوز الحدود وحافظ على توهجه خلال مسيرة طويلة واستثنائية.
وأضاف أن “نجاح هذه المجموعة لم يكن وليد الصدفة، بل جاء نتيجة تقاسم وتبادل الأفكار بين العديد من الفنانين الشباب خلال تلك الفترة (موسيقيين ، فكاهيين وفاعلين في المجال الفني) الذين اضطلعوا بدور حاسم في دعم وتكوين هذا المشروع الفني الجريء.
لقد تشكلت المجموعة في سياق اجتماعي وثقافي معقد، في وقت كانت فيه الضرورة تفرض توفير وإعطاء صوت لتطلعات المغاربة وواقعهم. وهكذا، استطاعت فرقة “ناس الغيوان” تجاوز السطحية التجارية من خلال ابتكار نمط موسيقي يحتفي بالقيم الجماعية ويقف ضد النرجسية والشهرة المفرطة.
وأضاف حبيبي، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن موسيقى “الغيوان” لم تكن مجرد تعبير فني منفصل عن الواقع، بل كانت رحلة فكرية مدروسة ومتجذرة بعمق في التراث الشعبي المغربي، مشيرا إلى أن المجموعة ومن خلال التقاط اللحظات المشرقة والسخاء العاطفي لهذا التراث، تمكنت من الكشف عن الطاقات الكامنة وتحريرها.
إن قوة تجربة “ناس الغيوان” نابعة من الأوساط التي ترعرع فيها أعضاؤها المنحدرين من الطبقات الشعبية بمدينة الدار البيضاء، وخاصة الحي المحمدي الأسطوري، حيث يحمل كل فرد من المجموعة خلفية ثقافية خاصة به.
وقال حبيبي إن الحمولة الفنية لـ “ناس الغيوان” جسدت مقاربة صادقة وجريئة، كما كرست إحداث ثورة في الثقافة المغربية مع الحفاظ على الوفاء للواقع الاجتماعي المغربي، الشيء الذي جعل من موسيقاهم فنا ذا تأثير قوي لدى عشاق هذا اللون الغنائي المتميز.
في البداية، كان لحماس وإصرار أعضاء المجموعة مثل بوجميع والعربي بطمة دور حاسم، حيث أن تشبثهم بالحفاظ على التراث والحكايات الشعبية و”العيطة” يجسد تمسكهم بالأرض وتراث أجدادهم. وهي اختيارات أكسبت فرقة “ناس الغيوان” شعبية سريالية ستبقى موشومة إلى الأبد.
وفي هذا السياق، وجب التأكيد على المساهمة الفعالة للفنان عبد العزيز الطاهري في ترسيخ خصوصية المجموعة من خلال إدخال فن الملحون على أغاني ناس الغيوان، مما أضاف سحرا وروعة إلى مزيج فني لم يجرؤ عليه أحد من قبل.
ووفقا للسيد حبيبي، فإن هذه المساهمة أضفت أيضا عمقا إضافيا على اللون الغنائي، مما أثرى خزانة الغيوان بالعناصر التقليدية التي تحتاج أيضا إلى حياة جديدة.
من جهتهما، ركز عمر السيد وعلال يعلى جهودهما على استكشاف الإيقاعات والأغاني التقليدية المهددة بالانقراض. فهذا التنوع في المواهب والاهتمامات داخل مجموعة “ناس الغيوان” أتاح لهم المجال لتطوير بديل فني جمالي.
وبالنسبة لمحمد بلحاج، المدير السابق لفرقة “ناس الغيوان”، فإن الفرقة ، ومن خلال تقديم شكل جديد من الموسيقى الشعبية، تمكنت من إحداث دينامية ثقافية جديدة ميّزت المشهد الموسيقي في المغرب وبلدان أخرى.
وقال بلحاج إن هذه المجموعة لها أيضا تأثير قوي على المستويين السياسي والاجتماعي، مشيرا إلى أن أغانيهم النقدية كانت صوتا للانشغالات الشعبية وعاملا في تشكيل الوعي الاجتماعي والسياسي في المغرب.
وأكد أن “الإرث الغنائي للغيوان لا يزال مستمرا حتى اليوم”، مشددا على أن المجموعة لم تترك بصمة قوية في الحقل الموسيقى المغربي فحسب، بل ألهمت أيضا العديد من الفنانين المعاصرين.
ويتواصل تأثير المجموعة في الموسيقى الشعبية المغربية الحديثة، حيث ينكب الفنانون الشباب على استكشاف هذا التراث الموسيقي والاستلهام من معانيه”.
وتابع أن كلمات أغانيهم حساسة وتلامس انتظارات الطبقات الاجتماعية المحرومة، ومليئة بالاستعارات والإشارات إلى الواقع اليومي، مضيفا أن “الحفلات الموسيقية الاعتيادية والألبومات المجمعة، والتكريم الذي حظيت به المجموعة يشهد على الاعتراف الأبدي بعمل هذه الفرقة الموسيقية ذات الصيت العالي في عالم الفن والموسيقى”.
وخلص بلحاج إلى أن هذه المجموعة الغنائية تظل أيقونة خالدة، تاركة إرثا دائما لا يزال يتردد صداه في المجتمع المغربي المعاصر. كما أن رحلتهم تبين كيف يمكن للموسيقى أن تكون بمثابة وسيلة قوية للتعبير الثقافي والتغيير الاجتماعي.