“التبراع” الشعر الحسّاني النسائي، رأى النُّورَ حديثا “كتاب جميل”، جمعت فيه أكاديميّة المملكة المغربيّة “تبريعاتِ”، مع شرحها باللغتَين العربية والفرنسية، وتقديمها، وتسجيلها وإتاحة الولوج إليها رقميّا، لحفظ هذا التعبير الشعري الحاضر بصحراء البِلاد.
وبعنوان “التّبراع-الشعر النسائي الحساني”، نُشِر هذا الكتاب الجديد بمبادرة ودعم من أكاديميّة المملكة المغربيّة، عن دار نشر بوييون دو كلتور، ونسّقه علميّا الأكاديمي رحال بوبريك، وقدمته كاترين تين الشيخ، وجمعت متنه وشرحته عزيزة عكيدة، وترجِم من طرف عيشتو احمدو.
وتتبّع وأشرف على الأشعار المؤدّاة الأكاديمي أحمد عيدون، وسجّلت بصوت خديجة لعبيد، وموسيقى للأغطف جنحاوي. ويتضمّن “الكتاب الجميل” رمزا خاصّا يتيح الاستماع إلى هذه القصائد النسائية على أنغام موسيقية حسانية، بآلة “تيدينيت” التقليدية، على شبكة الإنترنت.
وترافق هذه التّبريعات الحسانية النسائية صور من الصحراء، وأناسها وبهائها، تضع الأشعار في سياق قرظِها، ميسّرة للقارئ قراءة هذا التّعبير المتميّز، وتذوّقه والانسياب إلى عالَمه.
وفي توطئة الكتاب، يذكر عبد الجليل لحجمري، أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، أنّ دستور المملكة لسنة 2011 من الدساتير القليلة التي ورد بها في ديباجة مستفيضة تعريف دقيق وهامّ للهوية الوطنية، متعدّدة الرّوافد والتعبيرات الثقافية، واستشهد بالمادة الخامسة من الدستور التي تنص على: “تعمل الدولة على صيانة الحسانية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الهوية الثقافية المغربية الموحَّدة”.
ويعرّف لحجمري “التبراع” بكونه “شعرا نسائيا من بين أغراضه الغزَل، تعبّر من خلاله النّساء عن عواطفهنّ الرقيقة تجاه محبوبهنّ”، وهو شعر “نابع من عادات المجتمع الناطق بالحسانية في الصحراء المغربية”. ليؤكّد بعد ذلك على أنّ هذا الشعر “يستحقّ أن يوثَّق، وأن يُنشَر وأن يُحافَظ عليه، كتعبير نادر عن أحاسيس نسائية رقيقة”.
ويضيف أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة قائلا: “لا يضمّ هذا الشعر قصائد، لكونه عبارة عن بيتَين من رَوِيّ واحد، غير أنّه مناسبَة للفتيات للتّعبير بواسطة الشعر عن عواطفهنّ، من خلال المساهمة في منافسَة أو مناظرة داخل حلقة أو مجلس مُغلَق خاصّ بهنّ فقط”، ويزيد: “في الماضي، كانت أشعار الغزل تلقى أو تغنى، مع الحفاظ على سرية هوية الشاعرات. فالمرأة داخل المجتمع المحافِظ كانت من باب الحياء والحشمة تمتنع عن البوح بعواطفها بصفة عامّة. ولكن اليوم، ولو بشكل خجول، بدأت الألسن تتحرّر، وتعبّر بصوت عال عن أحاسيسها.”
كاترين تين الشيخ، مديرة بحث فخرية بالمركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا، تقول في الكتاب إنّ هذا النوع الشعري “أنثويّ بشكل حصريّ”، حتى وإن كان بعض الرجال قادرين على نظمه، ويتميّز بالاختزال لضمّه بيتَين فقط على وزن واحد ولكنهما غير متساوِيَي الطّول، أو يضم في الأصل ربما قافيتين للبيت نفسه.
وتضيف الباحثة أنّه حسَب علمها، لا يوجد في الثقافة العربية نوع أو غرض شعريّ شبيه بالتبراع، باستثناء شعر البدويّات في مصر المعروف بـ”الغناوة”، ويتكوّن بدوره “من شطرين بنفس الوزن والقافية، وجنس أنثوي محدّد يركّز على التعبير عن المشاعر بشكل مباشر”، موردة: “في الحالتَين، يتعلّق الأمر بنوع أنثويّ بالتحديد، يتمحور حول التعبير عن الأحاسيس بطريقة مباشرة أو غير مباشرة “مع وجود اختلافات، لا على مستوى الشكل فحسب، حيث لا توجد قافية في شعر غناوة (المصري)، بل أيضا من حيث المضمون”.
وتزيد الباحثة قائلة: “في الواقع، على عكس (غناوة) الذي هو شعر النساء المتزوّجات، فإنّ التبراع في الأساس شعر تقرِظُه الشابات العازبات، حيث يحتلّ الحبّ والمزاح والإفصاح عن المشاعر مكانة أكبر مقارنة مع سلبيّات الزواج، أو الصعوبات التي تواجه الزوجات مع الأصهار وأسرة الزوج”.
وتتحدّث الباحثة عن تطوّرات مضامين التّبريعات وكلماتها، فمن حضور الإشارات إلى البيئة البدويّة بشكل حصريّ، إلى بدء حضور أسماء مدن أخرى منذ استقبال نواذيبو شبابا باحثين عن عمل مأجور ابتداء من سنة 1960، وتكاثر أسماء الدول عند تحدّث الفتيات-الشاعرات عن حبيب ذهب بعيدا لمواصلة الدراسة، وصولا إلى دخول تلميحات إلى حياة المدينة، وبعض مؤسّساتها ومناصبها.
كما تتطرّق الباحثة إلى الصعوبات التي تواجه توثيق أشعار “التبراع”، قائلة: “مع مرور الوقت، ما كان مباحا للعازبات أو النساء الشابات يصبح محظورا. لَم يعد يكفي أن تُخفِيَ الشاعرة اسمَها، وتتحدّث عن طريق التلميحات، عليها أن تقطع مع الشعر، وأن تتظاهر بأنّ عالَم التبراع لَم يعد موجودا”. وتقدّم في هذا السياق مثالا بعجوز من منطقة “تاكانت” لَم تَقبل نقل مجموعَتها الشعرية إلا شفهيا عن طريق ابنتها.
وترى كاترين تين الشيخ أن هذه “الحكاية المعبّرة”، تُظهِر “الحاجة إلى وساطة طرف ثالث، باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتقليص “الفجور” المتأصّل في التبراع، الذي لا يفتأ يزيد مع تقدم العمر. وتشهد أيضا على وجود شاعرات حقيقيّات، حتى ولو ظللن بانتظام في الظّلّ بعد أن اختفَين، في الأزمنة الماضية، وراء أسماء جماعيّة تشير إلى مجموعات من نفس الفئة العمرية.”
ومن بين الأشعار التي يجدها القارئ في هذا “الكتاب الجميل”، تبريعات تقول: “بالِ نَوصِّيكْ .. لا تَبْغِ يَكون اَلْيَبْغيكْ / الكَلَبْ ؤُخْلَاك .. مَرُّ شَورْ اَلْمجْحُودْ اَتفاكْ / اَظْحَكْ حَدْ اَحْذَاكْ .. يَا لْبالْ اَمشِ باتْ علَ ذاكْ / يا دَّلالْ أشْلَك .. اَتْنَعَّتْ لِلماشِ فَصْلَكْ / بالِ حاجَلَّكْ .. أَكْلَيمَ كَطْ اَنكالَتْ لَك / دَلّالِ كافيكْ .. لَحْكَكْ تَعْرَفْ عَنُّ نَاسِيكْ / يبتَلُّ لَعروكْ .. مَن اَكلامْ اَشوَيْ ومَصروكْ / اَصَّبَر بْظَلُّ .. غَيْرْ اَحْنَ مَرَيْنَ بَلُّ / رَبِّ لْيَحْجَلِّ .. يَسْمَعْ تَبْرَاعِ وَيْوَلِّ”.
وهي تبريعات تعني باللغة العربيّة الفصيحة، وَفق التّرجمة التي اقترحها هذا العمل: “فؤادي أوصيك لا تحبّ إلّا مَن يُحِبُّك / قلبي وشعوري سافرا للمحبوب معا / ضحك أحدهم قربك، فؤادي اذهب ونَم على هذا المظهر / فؤادي لا تتمسّك بِمَن هو راحل وتُظهِر مدى احتياجك / فؤادي أتذكُر كلمة قيلت لك؟ / فؤادي يجب أن تَعِيَ أنّ الأمر انتهى وأنّه نسيك / تبتلّ العروق بكلام قليل مسروق / للصّبر نتائج خير لكنّنا لَم نجد نتائجه بعد / أتمنّى أن يسمَع “تَبراعي” ويعود أدراجه”.