في مارس/آذار 2019؛ شغلت نيوزيلندا -على غير عادتها- دنيا الناس بفاجعة ارتكاب يميني متطرف أسترالي مجزرة بحق مصلين مسلمين داخل مسجدين بمدينة كرايست تشيرتش. ورغم أجواء الحزن المطبقة جراء فظاعة الجريمة التي اقشعرت منها جلود الملايين؛ فإن مظاهر تضامن النيوزيلنديين الفريد -في شواهده ومشاهده- مع الجالية المسلمة سرعان ما عمرت القلوب وغمرت العقول، دافعةً للتساؤل عن سر رحابة الأفق الأخلاقي التي اتّسموا بها حكومةً ومحكومين، وداعيةً للإعجاب بوفائهم لقيمِ تعايشٍ إنسانيةٍ وحقوقِ مواطنةٍ طالما خانها نظراؤهم في المذهب السياسي والمشرب الحضاري!!
في هذا المقال؛ سنستعرض -انطلاقا من مواريث التجربة التاريخية الإسلامية- مناسبات ومواقف وحّدت فيها أطرافَ “الجماعة الوطنية” أطيافاً وطوائفَ لحظاتُ الفرح والحزن، لنرى كيف تعايش الجميع أحيانا كثيرة متراحمين ومتلاحمين، فجمعتهم دروب الحياة من محاريب العلم إلى دواليب الدولة، وضمتهم مناسبات المجتمع في وليمة عرس أو جنازة شخصية ذات شأن علمي أو مجتمعي، أو وحّد موقفَهم نشاطٌ سلمي أو حربي رفعاً لشكوى طغيان محلي أو دفعاً لبلوى عدوان أجنبي، حاملين كتبهم المقدسة ورموزهم الدينية في وئام وسلام.. ودون نكير أو استغراب!!
الميراث النبوي
كانت رسالة الإسلام -من أول يوم- كونية الخطاب عالمية الدعوة، وسرعان ما أصبحت المدينة عاصمة لدولة الرسول (ص) المتعددة الشعوب والعقائد إذ “الناس ]فيها[ أخلاط: مسلمون ويهود ومشركون ومنافقون”، ثم كان إعلان الرسول (ص) -بوصفه “إمام الأمة والمنفرد بالرئاسة الدينية والدنيوية” وفق تعبير الإمام الباجي (ت 474هـ)- ‘دستورَ المدينة‘ الذي عرّف ساكنة هذه المدينة/الدولة بأنهم “أمة من دون الناس” تبعا لمبدأ المواطنة لا الديانة أو العِرق.
وقد وضع الرسول (ص) أسس التعايش السمح بين مكونات “الوطن” الجديد، تمثُّلا للتوجيهات القرآنية عقديا ومجتمعيا: “لا إكراه في الدين” و”لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين”؛ فكان يزور مرضى اليهود (صحيح البخاري)، ويقوم احتراما لجنائزهم (صحيح البخاري)، ويعاملهم ماليا حتى إنه اقترض من تاجر يهودي فتُوفي (ص) ودرعه مرهونة لديه (صحيح البخاري).
بل إنه سمح لضيوفه المسيحيين بإقامة شعائرهم داخل المسجد النبوي؛ فقد ذكر الإمام ابن القيم (ت 751هـ) أنه “صحّ عن النبي (ص) أنه أنزل وفد نصارى نجران (سنة 9هـ وعددهم 14 رجلا) في مسجده وحانت صلاتهم فصلوا فيه”، وأنه “يؤخذ من هذه القصة أمور منها: جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين”. وأرشد (ص) صحابته إلى كيفية الدعاء لـ”أهل الكتاب” مكافأة لمعروف يسدونه إليهم؛ فقد أسند الإمام الذهبي (ت 749هـ) إلى ابن عمر أن النبي قال: “إذا دعوتم لأحد من اليهود والنصارى فقولوا: أكثر الله مالك وولدك”.
وعلى خُطى هذا الهدْي النبوي الحنيف؛ سار الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان من منصفي المسلمين وغيرهم من أبناء الوطن الإسلامي، طوال الحقب التي تمتعت فيها الأمة بعافيتها الفكرية وأريحيتها الحضارية؛ فكان قادة الفتوح الإسلامية يعطون لأصحاب الأرض المفتوحة “الأمان لأنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، لا ينتقص شيء من ذلك ولا يساكنهم أحد من غير ملتهم”. وكان هناك تاريخيا “قاضي النصارى” و”قاضي قضاة اليهود” الذي يسمى اصطلاحا “الناجد”.
ويحدثنا الإمام ابن كثير (ت 774هـ)- أن المسلمين والمسيحيين اشتركوا في دمشق مدة سبعة عقود “معْبداً” واحدا لتأدية صلواتهم، فكان نصفه كنيسة ونصفه الآخر مسجدا، و”كان المسلمون والنصارى يدخلون هذا المعبد من باب واحد…، فينصرف النصارى إلى جهة الغرب إلى كنيستهم، ويأخذ المسلمون يمْنةً إلى مسجدهم”. وهذا “المعبد” هو الذي صار فيما بعد مسجدا خالصا للمسلمين حين تراضى الفريقان على ذلك سنة 86هـ، وعُرف تاريخيا وحتى الآن بـ”الجامع الأموي”.
ومع انتكاسة المد القيمي لدى المسلمين أواخر القرن الثاني؛ اختلّ كثير من موازين العدل والفضل، وشاع التظالم المجتمعي تحت وطأة الفتن السياسية والأزمات الاجتماعية وتمزق النسيج الداخلي. ثم عمّق ذلك كلَّه ما استجدّ مع مطلع القرن الرابع من عوامل أجنبية تمثلت في التهديدات الخارجية للعالم الإسلامي بمشارقه ومغاربه (هجمات الروم البيزنطيين وحملات الصليبيين الفرنجة وحروب المسيحيين بالأندلس)، ورُبط أحيانا كثيرة بينها وبين المكوّن غير المسلم داخله.
تلمذة متبادلة
ولعل من أوائل مظاهر التعايش الإيجابي بين المسلمين وغيرهم الأخذَ المتبادل للعلوم والمعارف الذي تواصل عبر حقب التاريخ الإسلامي؛ ففي صدر الإسلام تلقّى كثير من المسلمين عن أحبار اليهودية والمسيحية معارف مختلفة مما لا يتعارض مع تعاليم الإسلام وحقائقه. ومن الأمثلة على ذلك أن عالم التفسير مقاتل بن سليمان البلخي (ت 150هـ) كان “يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم”، ورغم ما قيل فيه جَرحاً فإن آراءه في التفسير لا يخلو منها أيٌّ من كُتب التفسير المعتمَدة لدى علماء المسلمين!
كما كان إمام المغازي محمد بن إسحق (ت 151هـ) “يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم في كتبه ‘أهل العلم الأول‘”. ولما أصدر المتوكل العباسي (ت 247هـ) سنة 235هـ قراراته التمييزية بحق غير المسلمين كان منها أنه “نهى أن يتعلَّم أولادُهم في كتاتيب المسلمين و]أمر[ ألا يعلِّمَهم مسلم”. ويدل هذا على أن الجميع كانوا يشتركون في أماكن التعليم.
وتحدثنا كتب التراجم أن يحيى بن جزلة الطبيب المسيحي المرموق (ت 493هـ) “كان يقرأ على أبي علي ابن الوليد المعتزلي ويلازمه”. وكان أبو محمد الغنوي النصيبي الشافعي (ت 660هـ) “منقطعا في منزله… يتردد عليه جماعة من المسلمين واليهود والنصارى والسامرة ]فـ[ـيُقرئ الجميع”. وشمس الدين محمد بن يوسف الجزري الشافعي القوصي (ت 711هـ) “انتصب للإقراء فقرأ عليه المسلمون واليهود والنصارى، وولي خطابة الجامع الطولوني ]بالقاهرة[، وقرأ عليه التقي السبكي وروى عنه”.
وجاء في ترجمة عبد السيد بن إسحق الإسرائيلي (ت 715هـ) أنه “ديّان اليهود (= زعيمهم الديني)، وكان يحب المسلمين ويحضر مجالس الحديث وسمّعه المزّي، ثم هداه الله تعالى وأسلم”. ومع شهود “مجالس سماع الحديث”؛ كان بعض المسيحيين واليهود يحضر “جلسات السماع الصوفية” بين المسلمين، ولذا حكى الذهبي أن “مقدَّم الطائفة الحريرية” الشيخ أبو الحسن الحريري (ت 645هـ) ”نهى أصحابه عن غلق الباب وقت السّماع حتى عن اليهود والنصارى”.
توحد بالأزمات
ومن صور التعايش الرحيم ما كان يُصدره العلماء والقضاة المسلمون من فتاوى لدفع ظلم الحكام عن رعيتهم وخاصة من غير المسلمين، ومن ذلك أن المفتي المالكي وقاضي القضاة بمصر الحارث بن مسكين (ت 250هـ) استفتاه الخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ) في قتال أقباط قرية البُشمور حين تمردوا على سلطته سنة 216هـ، فرفض الحارث قتالهم قائلا “لا يحلّ لك. فقال له المأمون: أنت تَيْس”!! وذكر ابن الوردي في تاريخه أنه في سنة 721هـ وقعت فتنة بالقاهرة حاصر فيها بعض العامة الكنائس “فغضب السلطان واستفتى القضاة فأفتوه بتعزيرهم”.
بل إن المستشرق السويسري آدم متز (ت 1917م) يقول إنه “كثيرا ما كان رجال الشرطة المسلمون يتدخلون بين فرق النصارى لمنعهم من المشاجرات”، وذكر نموذجين لذلك مشيرا إلى محاولة المأمون فرض الحرية الدينية قانونيا لطوائف المسيحيين ولو كان عدد إحداها عشرة أشخاص، فاعترض رؤساء الكنائس على ذلك!
ومن الظواهر المتكررة في التاريخ الإسلامي ما كان يقع في مدنه الكبرى من مظاهرات احتجاجية على عسف السلطات وظلمها للناس أو انعدام الأمن والاستقرار، وكان من المعتاد أن تشارك فيها أحيانا كافة الطوائف الدينية. ومن أغرب تلك الوقائع الحادثة التي حصلت في دمشق وحملت فيها كل طائفة كتابها المقدس واشتركوا في الدعاء داخل الجامع الأموي!
فقد ذكر المقريزي (ت 845هـ) أنه في سنة 363هـ دخل أبو محمود إبراهيم بن جعفر البربري الكتامي -وهو قائد العسكر المصري الفاطمي- دمشق وهي مضطربة الأمن، وعندما “تفاقم الأمر واشتد البلاء” سيّر أهلُها -بقيادة “مشايخ البلد”- مظاهرات تندد بالاضطراب وتطالب بتوفير الأمن، وفيها “فتح المسلمون المصاحف، والنصارى الإنجيل، واليهود التوراة، واجتمعوا بالجامع وضجوا بالدعاء، وداروا المدينة وهي منشورة على رؤوسهم”!!
وحين اشتدت وطأة الوزير البويهي أبي الفضل الشيرازي (أقيل من الوزارة 362هـ ومات بُعيدها) “كثر الدعاء عليه فى المساجد الجامعة وفي الكنائس والبـِيَع”. وعندما بالغ خليفة الفاطميين الحاكم بأمر الله (ت 411هـ) في ظلمه لرعيته بمصر سنة 395هـ “اجتمع الكتاميّون واستغاثوا إليه، وكذلك سائر الكتّاب والعمال والجند والتجار… والنصارى واليهود، وسألوه العفو عنهم”. ويضيف المقريزي أنه صدر العفو في “سجل كُتب ]منه[ نسخة للمسلمين، ونسخة للنصارى، ونسخة لليهود”.
وفي سنة 394 تدخّل مسؤول مسيحي كبير في الدولة الفاطمية لرفع الظلم عن أهل الشام المسلمين وغيرهم، واستغل في ذلك علاقته بـ”ست الملك أخت الحاكم (الخليفة الفاطمي) وله منها رعاية مؤكدة، فكتب إليها يستصرخ بها ويشكو ما نزل بالناس من البلاء إليها وما شمل الشام وأهله… من الظلم والعسف والجور، مما لم يجر بمثله عادة في قديم الأزمان ولا حديثها. فلما وصل الكتاب إليها.. دخلت على الحاكم وكان يشاورها في الأمور ويعمل برأيها ولا يخالف مشورةً لها”.