أحداث العنف التي عاشتها الأحياء المغربية خصوصا في المدن الكبرى ليلة عاشوراء، أثرت في الكثير من النفوس، وأصابت بعض الأرواح باليأس، وحرضت الكثير من المترددين على حسم قرار الهجرة من هذا الوطن إلى غير رجعة. لقد اقتنعوا جميعهم بأن المغاربة تغيروا كثيرا وقطعوا أشواطا بعيدة في الإفلاس الحضاري والانهيار الأخلاقي، وفقدوا آخر نقطة في رصيد الأدب واللباقة والاحترام. مأساة المتضررين من هذا الواقع المر هي أنهم أدركوا أن سهام النقد التي كانوا يوجهونها للسلطة وللمؤسسات والنظام لن تكفيهم في مواجهة المد الجارف من القبح والتشوه والبشاعة والنشاز الذي يفكك أوصال المجتمع ويحوله إلى مصدر مشع للطاقة السلبية القاتلة والمحبطة.
نعم الإحباط هو ذاك الشعور الذي اكتسح نفوسنا في تلك الليلة التي سيطر فيها المراهقون والمدمنون وأصحاب السوابق على الشوارع والأزقة وأمطروا سماءنا بملايين الدراهم من المفرقعات والشهب الاصطناعية، وأحرقوا آلاف إطارات العجلات الملوثة، ونشروا في كل الأماكن إحساسا عارما بانعدام الأمن وبموت القيم ونهاية المثل المغربية الأصيلة. تلك المثل والقيم التي كانت إلى الأمس القريب تخفف على المغاربة معاناتهم مع معضلات الزمن من فقر وجهل ومرض. في ليلة عاشوراء تذكر المرء كم نحن موغلون في صحراء التخلف، وكم نحن مولغون في إناء الرجعية. ذلك التخلف والرجعية اللذان يسمحان بتدمير راحة وأمان وطمأنينة الجار وخنق ومصادرة حقه في الهدوء لا لشيء سوى لإرضاء نوازع تجارية لمافيا المفرقعات، أو للاستجابة لنداء الجهل والتقاليد أو خضوعا للاستقالة الجماعية للآباء وأولياء الأمور.
ما حدث ليلتها من انحرافات واعتداءات بل وجرائم استمرت إلى ساعات متأخرة من الليل دليل ساطع على الفشل الذريع الذي حصدته كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية من أسرة ومدرسة ومجتمع ومؤسسات في عملية بناء عقلية حديثة ومنظمة تعطي لقيم الاحترام والانتظام والعقل والتفكير أولوية قصوى. لم يكن في ليلة عاشوراء العاصفة بأصوات القصف والمتفجرات والحرائق مظهر واحد من مظاهر العقل الذي يمكن أن يعقل بعض المراهقين عن رمي بعضهم البعض بمفرقعات وشهب خطيرة كتلك التي أودت بحياة شاب في حي درب غلف بالدار البيضاء بعد أن مزقت وريده. لا أحد منا اليوم يستطيع أن ينكر أن الإنسان المغربي لم يعد مسالما أو هادئا أو مسيطرا على لسانه ويده. فمظاهر العدوانية صارخة جدا ومؤذية للعين والنفس، وأشكال العنف اللفظي والجسدي تؤثث كل فضاءاتنا العمومية.
النشل والسرقة بالعنف والتحرش والسباب والألفاظ النابية والأصوات المنكرة والنظرات القاسية والروائح المؤذية والتطفل والتسول والتهافت والاحتلال والاستغلال والاستهزاء والأزبال والقبح والنشاز والنصب والأنانية…هذا كله ما يشكل فضاءاتنا العمومية. لا يمكن أن تجد المغاربة يقفون في طابور إلا نادرا. جرب أن تقف عند البقال في طابور وستقضي يومك أمامه دون أن تشتري حاجتك. جرب أن تقف في صيدلية حراسة ليلية بانتظام وسترى كيف سيأتي الكثير من الزبناء لتجاوزك دون استشارتك وأخذ حاجتهم. جرب أن تصعد إلى الحافلة بهدوء وكن متيقنا أنك ستكون آخر من يصعد فلا تجد مكانا فارغا. جرب أن تنام في التاسعة أو العاشرة ليلا، صدقني لن تستطيع لأن الدراجات المزعجة لا تتحرك إلا ليلا.
عندما تسرق الأحذية من المساجد هل يكفي وصف الإفلاس لواقع الحال؟ عندما تصادر حاويات الأزبال في الشوارع وتتحول إلى خزانات منزلية للحبوب والمؤونة فهل يكفي وصف الإفلاس؟ عندما يتبول المارة على جدران المدرسة فهل يكفي وصف الإفلاس؟ لقد وصلنا فعلا إلى قاع القاع. بل لقد أوصلونا إليه، بعد أن قضوا عقودا طويلة يقمعون ويتآمرون ويدبرون لينتهي بنا المآل إلى منافسة الأمم العظمى في تنظيم المناسبات الكبرى ونصف شعبنا لا يجد ما يسد به رمقه. لقد قضوا على كل شيء. كنا نبكي لفقرنا ومرضنا وجهلنا، واليوم لن تكفينا الدماء دموعا على تصحرنا الحضاري والأخلاقي وانصرام رصيدنا البائد من الاحترام والرأفة وأطلال “تمغربيت” الأصيلة.