فيما تعيش التماسيح المعاصرة في الأنهار والبحيرات والأراضي الرطبة غالباً، انتشرت الأنواع الغابرة منها عبر اليابسة والمحيطات. ويعتقد عدد من العلماء الآن، أن مرد ذلك إلى تطور سريع طرأ على سماتها الوراثية.
وقد وجدت التماسيح كما نعرفها اليوم قبل تكون سلسلة جبال الهمالايا (التي بدأت بالتشكل بسبب حركة الصفائح في العصور الجيولوجية القديمة قبل نحو 40 إلى 50 مليون سنة). وكذلك تحظى تلك الحيوانات بسجل أحفوري يمتد إلى نحو 55 مليون سنة، بيد أن أقاربها المنقرضة ترجع في الزمن إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى قرابة 230 مليون سنة.
في زمن الديناصورات، أي قبل ما يربو على 60 مليون سنة، عاشت أنواع كثيرة من التماسيح. ويقدم السجل الأحفوري تفاصيل عن كيف أن إحدى محاولات التطور “جربت” أشكالاً من التكيف تشابهت فيها مع الدلافين بغية التمكن من العيش في البحار، بينما سكنت تماسيح أخرى اليابسة كحيوانات سريعة الجري وتقتات على النبات.
واستطراداً، درس باحثون بقيادة علماء في “جامعة بريستول” البريطانية ما يربو على 200 جمجمة وفك يشتمل عليها سجل الأحافير المعروف للتماسيح وأقاربها المنقرضة، وتفحصوا كيف يكشف اختلاف أشكالها عن تباينات في بين أنواعها، وكذلك مدى سرعة التغير الذي مرت به التماسيح مع الزمن.
وقد ذكر أولئك الباحثون أن الدراسة كشفت كيف أن بعض مجموعات التماسيح المنقرضة، من بينها “ثالاتوسوكيات” thalattosuchiansالشبيه بالدلافين والـ”نوتوسوكيات” notosuchians الصغيرة التي عاشت على اليابسة، تطورت خلال حياتها بسرعة كبيرة عبر ملايين السنين.
خلال أشكال التكيف تلك، طرأت تغيرات كبيرة على جماجم التماسيح وفكوكها، ومرد ذلك إلى أنها وسعت وجودها في بيئات تسكنها اليوم مجموعات حيوانية أخرى، خصوصاً الثدييات.
كذلك كشف البحث أيضاً أن التماسيح والقاطورات alligators والـ”غاريال” gharials، وهي التماسيح الوحيدة المتبقية، تشكل في الواقع أشكالاً جاءت نتيجة عمليات تطور أقل سرعة وحدة، بالمقارنة مع عدد كبير من التماسيح الموجودة في تلك المجموعات الأحفورية المنقرضة، وقد تطورت على نحو مطرد على مدى الثمانين مليون سنة الماضية.
كذلك لم يعثر أولئك العلماء على أي دليل يثبت تباطؤ تطورها، وقد نفوا أيضاً فكرة شاعت طويلاً عن التماسيح، مفادها أنها تمثل “أحفوريات حية”. [تذكيراً، يشير مصطلح “أحفورية حية” إلى كائنات احتفظت بشكلها الظاهري أنها تحتفظ بالتركيب الظاهري نفسه الذي كانت عليه قبل ملايين السنين]. وبالتالي، تكون تلك الكائنات شبيهة بأنواع غير معروفة إلا عبر من السجلات الأحفورية، وليس لديها أيضاً سوى عدد قليل، من الأشكال الحية القريبة من تركيبتها. أو ربما لا يوجد أشكال حية قريبة من تركيبتها أبداً.
في ذلك المنحى، لفت الباحث الرئيس في الدراسة الدكتور توم ستابس، وهو أيضاً باحث مساعد كبير في “كلية علوم الأرض” في “جامعة بريستول”، إلى أن “التماسيح وأسلافها تمثل مجموعة رائعة تسهم في فهم الوفرة والتناقص في التنوع البيولوجي”.
وأضاف الدكتور ستابس، “ينتشر حول العالم اليوم 26 نوعاً من التماسيح، ويبدو معظمها متشابهاً جداً في تكوينه. ولكن مع ذلك، ثمة مئات من الأنواع الأحفورية [من التماسيح] تتمتع باختلافات مذهلة، لا سيما في جهازها الغذائي”.
وفق الدكتور أرمين إلسلر، باحث مساعد في “كلية بريستول لعلوم الأرض” وباحث مشارك في الدراسة، “تتيح لنا الأساليب الجديدة الحديثة الآن الكشف عن اختلافات في سرعة تطور الكائنات عبر الزمن وعبر المجموعات البيولوجية أيضاً”.
“في الواقع، جرت الإشارة منذ زمن طويل إلى أن تحولات دراماتيكية في الموائل والنظام الغذائي في مقدورها أن تفضي إلى تطور سريع لدى الكائنات. في المقابل، لا يشار عادة إلى تلك الأنماط سوى في مجموعات تتميز بتنوع كبير اليوم، من قبيل الطيور والثدييات والأسماك. لذا، فإنه للمرة الأولى يظهر هذا الاتجاه لدى التماسيح، علماً أن الأخيرة مجموعة لها تاريخ أحفوري غني، لكن تنوعها البيولوجي الحديث ضئيل”.
على المنوال عينه، ذكرت الدكتورة ستيفاني بيرس، أستاذة مساعدة في علم الأحياء العضوية والتطور في “جامعة هارفرد”، أن “التماسيح الغابرة في القدم ظهرت في مجموعة مذهلة من الأشكال. لقد تكيفت مع الركض على اليابسة، والعوم في الماء، وصيد الأسماك، وحتى مضغ النباتات”.
وأضافت، “تظهر دراستنا أن تلك الأساليب المختلفة في العيش تطورت بسرعة مذهلة، ما أتاح آنذاك للتماسيح المنقرضة بالنمو سريعاً والسيطرة على منافذ بيئية جديدة على مدى ملايين السنين”.
وفي سياق متصل، أورد البروفيسور مايكل بينتون من “جامعة بريستول” أنه “ليس واضحاً سبب القدرة المحدودة لدى التماسيح الحديثة على الانخراط في عمليات تكيف. لو أن العالم لم يشهد سوى الأنواع الحية من التماسيح، ربما نقول إنها محدودة في أنماط حياتها لكونها من ذوات الدم البارد، أو بسبب هيئتها التشريحية”.
ووفق كلمات البروفيسور بينتون، “في المقابل، يظهر السجل الأحفوري قدرات مذهلة لدى تماسيح، يشمل وجود أعداد كبيرة من أنواع عاشت في المحيطات وعلى اليابسة. ربما لم تبل بلاءً حسناً إلا عندما كان المناخ العالمي أكثر دفئاً من حرارته اليوم”.