يمكن اعتبار منطقة دارفور ملخّصا للحرب السودانية، فمنها انطلق محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي تصارع قواته، «الدعم السريع» الجيش السوداني، الذي يرأسه عبد الفتاح البرهان، وإضافة إلى الخرطوم، التي يعتبر الاستيلاء عليها حسما لمعركة السلطة، فإن دارفور ما تزال تعاني صراعا آخر، تختلط فيه المطامح السياسية بالعسكرية والاقتصادية، وتشتبك قضايا الإثنيات والقبائل بشكل معقد.
يطمح الطرفان، من دون شك، للسيطرة المطلقة على السلطة، وهو ما يعني التخلّص من إرث الانتفاضة الشعبية ومطالب السودانيين بحكم مدني ديمقراطي، لكن الصراع في دارفور، منذ نشوبه عام 2003، أخذ طابع العنف الذي تشتغل تحت أقنعته السياسية والأيديولوجية المزعومة نزاعات القبائل العربية ـ الأفريقية، وطموحات جنرالات الحرب، وقادة الميليشيات، الذين تتبدل مواقفهم بتبدّل الأوضاع، فيعلّي قادة السلطة شأن بعضهم، كما حصل مع مالك عقار، رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان ـ الشمال، الذي عيّنه البرهان نائبا له، بعد تمرّد «حميدتي» عليه، أو يذهب البعض الآخر ضحيّة اغتيال بدم بارد، كما حصل مع الجنرال خميس أبكر، والي غرب دارفور، رئيس «التحالف السوداني» إحدى الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام.
ظهر أبكر في لقاء تلفزيوني اتهم فيه قوات الدعم السريع وجماعات مسلحة متحالفة معها بارتكاب أعمال عنف وصفها بـ«إبادة جماعية» وقال أبكر: «المواطنون اليوم يُقتلون بطريقة عشوائية جدا وبكميات كبيرة» وأنه بعد استهداف «الدعم» والميليشيات المتحالفة معها مناطق قبيلة المساليت (التي ينتمي إليها أبكر) فإن الهجمات امتدت إلى المدينة بأكملها».
إثر هذا الحديث قامت قوات مسلحة باقتحام منزل أبكر واختطافه، ولم يتردد القتلة بتوثيق فعلتهم، فنشر موالون لجماعة «حميدتي» شريط فيديو على وسائط التواصل يقول فيه الجنود إنه لأبكر، ويظهر فيه شخص بملابس سوداء غطّي وجهه بخوذة زرقاء، يتم إخراجه من سيارة لقوات الدعم وإدخاله مكتب قائد قوات الدعم في مدينة الجنينة، ليظهر بعد ذلك في صورة للوالي بائس الحظ جثّة مغطاة بالدماء.
أبكر هو أحد قادة الميليشيات الكثيرة التي يعج بها السودان، ومثل أغلبهم فقد شهدت مواقفه صعودا ونزولا وتغيرات، ضمن مسار انقلاب كراسي القتل الدوارة وتغيراتها، فبعد الحروب التي خاضوها ضد الجيش والدعم السريع، حين كان البرهان قائدا عسكريا في إقليم دارفور، وحميدتي مقاتلا إلى جانبه، أخذت مواقعهم تتأرجح ضمن الصراع الكبير بين العسكريين والمدنيين، فحين قرّر البرهان وحميدتي الانقضاض على حكومة عبد الله حمدوك المدنية، وقوى الحرية والتغيير، انحاز أبكر إلى الجناح القريب من الجيش و«الدعم السريع» كما فعل مني اركو مناوي، حاكم إقليم دارفور، ورئيس حركة تحرير السودان، وزميله جبريل إبراهيم، وزير المالية والاقتصاد، ورئيس حركة العدل والمساواة، ومالك عقار، رئيس الحركة الشعبية ـ شمال، نائب البرهان حاليا.
تدخل القوى الإقليمية ضمن هذه الشبكة المعقدة للتحالفات والتغيّرات ولعبة الكراسي القاتلة، وكان مثيرا، قبل أيام، أن تقترح الولايات المتحدة الأمريكية، دخول مصر، التي تعتبر الراعي الإقليمي للبرهان والجيش السوداني، والإمارات، التي تعتبر الراعي الإقليمي لحميدتي و«الدعم السريع» ضمن مفاوضات جدة، لوقف الصراع بين الطرفين العسكريين الكبيرين.
كان اتفاق جوبا للسلام، عام 2020، الذي وقعت عليه الحكومة المدنية السودانية، برئاسة حمدوك، ورئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، مع «الجبهة الثورية السودانية» التي ضمت الجماعات السودانية المتمردة الخمس الرئيسية (اثنتان منهما من إقليم دارفور) مقدّمة ممكنة لعودة السلام والأمن والاستقرار إلى السودان، لكنّ جنرالات الحروب، مدعومين من القوى الإقليمية الراعية، ومطامح السيطرة المطلقة، قلبوا الكراسي من جديد، وأدخلوا السودان في حمّام الدم الذي نشهده الآن.