في العام 1986، أعلنت شركة “ويلز فارغو” (Wells Fargo) الأميـركية العملاقة للخدمات المالية استحواذها على مصـرف “كروكر” (Crocker national corporation) المحلّي الكائن في مدينة سان فرانسيسكو. لم يكن خبر الاستحواذ غريبا أو استثنائيا أو يستحق ضجّة إعلامية أو تغطية صحفية خاصة، فقط مجرد استحواذ آخر تقوم به “ويلز فارغو” للتوسّع في السوق الأميـركي وكسب مساحات جديدة للخدمات المصـرفية في مختلف الولايات.
لكن ما فعلته “ويلز فارغو” لاحقا بعد إتمام الاستحواذ كان هو الاستثنائي. لم تكد تمرّ بضعة أيام على خبر انضمـام بنك كروكر إلى مملكتها إلا وأطلقت خطة كبيـرة للتخلص من كافة التكاليف الزائدة في إطار عملية الدمج. كانت هذه “التكاليف الزائدة” تشمل التخلص من الغالبية العظمى من موظفي بنك كروجر، بطرد 1650 موظفا من بينهم كبار المديرين في مستويات عليا، وإغلاق 120 مكتبا. كان سبب هذه الاستبعادات هو أن موظفي البنك أبعد ما يكونون تماما عن ثقافة شركة “ويلز فارغو” الإدارية، وأن استمرارهم سيكون عبئا على الشركة!
حينئذ فقط، تعالت موجة كبيرة من الانتقادات والاحتجاجات على تصرّف إدارة “ويلز فارغو” الجريء، لدرجة أن بعض الانتقادات وصفت هذه الإجراءات بأنها محاولة من موظفي “ويلز فارغو” لحماية أنفسهم ومناصبهم باستبعاد الآخرين. فما كان من شركة “ويلز فارغو” إلا أن أوضحت موقفها من قرارات الاستبعادات الكبيرة قائلة في تصريح مقتضب:
“هذه ليست عملية دمج بين طرفين متساويين، بل هي عملية استحواذ كاملة. لقد اشترينا فروع شركتكم وعملاءكم، ولم نشترِ موظّفيـكم!”(1، 2، 3، 4)
لا تحتاج إلى التفكير طويلا لتحكم أن قرار “ويلز فارغو” كان قرارا إداريا ظالما بلا شك. الفصل التعسّفي لعدد كبير من الموظفين بهذا الشكل لا يمكن أن يكون قرارا عادلا، حتى لو ساقت الشركة بعض الأسباب التي تبرر هذا القرار العنيف. أحد أهم هذه الأسباب التي ذكرتها إدارة “ويلز فارغو” أن المدير العادي في “كروكر بنك” لم يكن يماثل من قريب أو من بعيد المدير العادي في “ويلز فارغو”، فما بالك بالموظفين في المستويات الأدنى والوسطى. فرق هائل في القدرات والخبرات، وفرق هائل في فلسفة الشركة وطريقة العمل.
بحسب الكتاب الريادي الشهيـر “جيد إلى عظيم” (Good To Great) الذي توقف أمام هذه الحادثة بشكل كبير وتناولها بالتحليل المكثّف، كان الفرق بين الجهتين واسعا بالفعل. موظفـو بنك “كروكر” من المدرسة القديمة المتشبّعة بالتقاليد المصرفية القديمة، سواء في طريقة العمل أو حياة الترف التي جعلتهم يؤسسون غرفة خاصة من الرخام الفاخر قيمتها تزيد على 500 ألف دولار، مخصصة فقط للمديرين لتناول وجباتهم الغذائية بها. بينما ثقافة “ويلز فارغو” كانت مختلفة تماما في أدواتها وتميل إلى الترشيد الدائم لدرجة أن المديرين يتناولون وجباتهم في مبنى صغير تابع لأحد المعاهد الجامعية! (5، 6)
كانت هذه الاختلافات وغيرها السبب الذي جعل إدارة “ويلز فارغو” في اتخاذ هذه “المجزرة” الإدارية بتسريح مئات الموظفين من كافة المستويات، والصمود أمام موجـات الهجوم والنقد اللاذع التي تعرّضت لها، والتبرير لهذا الإجراء بأنه تصرّف إداري قاسٍ وليس ظالما، حتى إن أحد مسؤولي “ويلز فارغو” قال: “لقد اتفقنا جميعا على أننا نتعامل مع عملية امتلاك وليس مشاركة، ولا معنى للف والدوران وعدم اعتماد الصراحة مع الموظفين. ما كنّا لنقبل بالتسبب في ثقافتنا الإدارية والتشغيلية والتوظيفية بالموت من جراء إصابتها بألف جرح صغير يمثّله ألف موظّف لن يتمكن من الركوب معنا في الحافلة، فكانت المصارحة ضـرورية منذ اليوم الأول!”.
الإدارة الظالمة تعني بالضـرورة ارتكاب الأخطاء عمدا في معظم الوقت. هي إدارة قائمة على مبدأ التقطيع والبتر لكل ما لا يعجب المدير على المستوى الشخصي
واحدة من أكبر الصعـوبات التي تواجه الإدارات في الشركات الناجحة هي السير على شعـرة رفيعــة ما بين مفهوم “الإدارة الحازمة” و”الإدارة الظالمة” بما تحمله كلتا الإدارتين من فرق هائل بينهما. الحزم الإداري مطلوب في أعلى مستوياته بشكل يتآلف مع مفاهيم ضخ الابتكار والمرونة والإبداع والتدريب والملاحظة لكل موظف من موظفي الشركة، أما لو اختلط هذا الحزم بمفهـوم “الظلم” فهذه الخطوة تعتبر بالنسبة للعديد من الشركات بداية النهاية.
الإدارة الظالمة تعني بالضـرورة ارتكاب الأخطاء عمدا في معظم الوقت. هي إدارة قائمة على مبدأ التقطيع والبتر لكل ما لا يعجب المدير على المستوى الشخصي، أو الإدارة العليا على المستوى الجماعي. إدارة قائمة على اتخاذ قرارات حاسمة دون أي دراسة متأنّية، فتطلق قرارات بفصل الموظفين بغض النظر عن مستوياتهم الوظيفية، أو الإبقاء على موظفين آخرين لدواعي صلات شخصية أو إنسانية أو مصالح مشتركة حتى وإن كانوا ضعفاء الكفاءة.
أما الإدارة الحازمة، فتعني التشدد في التطبيق المتماسك للمعايير العامة حتى لو كانت قاسية في جميع الأحوال وعلى جميع المستويات، بما فيها مستويات الإدارة العليا ذاتها. وبالتالي، وحتى في حالة توقيع قرارات قاسية أو اتخاذ إجراءات غير مُرضية للجميع، فإن هذه الحالة المتكاملة من الحزم تعني عدم وجود داعٍ للقلق من طرف الموظفين ذوي الكفاءة بخصوص مراكزهم أو طريقة إدارة أعمـالهم، وبالتالي يمكنهم فقط التركيز بشكل كامل على أداء العمل كما ينبغي.
بالطبع لم يكن الإجراء الذي اتخذته “ويلز فارغو” بتسريح مئات الموظفين وغلق عشرات المكاتب تصرفا مرنا، كان تصرّفا ظالما لم يراعِ كافة الخيارات المتاحة مثل تدريب الموظفين وتأهيلهم بشكل جيد، أو إعادة توزيعهم أو إدماجهم في برامج لرفع كفاءتهم الوظيفية قبل اتخاذ قرار التسريح، حتى لو تعللت إدارة “ويلز فارغو” بأنها كانت “قاسية” وليست “ظالمة”. (6)
استعرض كتاب “جيد إلى عظيم” (Good To Great) مجموعة من القواعد التي يمكن من خلالها أن يكون المدير مُلتزما بأساليب حازمة في إدارته، وفي الوقت نفسه تُبعده عن الولوج في “الظلم” سواء للموظفين أو المساعدين أو العاملين تحت إدارته. يمكن تلخيص هذه القواعد في ثلاثة محاور أساسية:
القـاعدة الأولى: إن لم تكن متأكدا من كفاءاته.. تابع البحث!
إذا كان للفيزياء قوانين ثابتة، فالإدارة لها أيضا قوانين ثابتة، أشهرها قانون ينصّ على الآتي: لا يوجد شركة تستطيع أن تنمّي عائداتها بصورة متماسكة إلا بقدرتها على توظيف الأشخاص الأكْفاء القادرين على تحقيق هذا النمو. فإذا كان نموّ عائداتك يتخطىّ باستمرار معدل نمو كفاءة موظفيك، فحتما لن تستطيع أن تبني شركة صاعدة!
القاعدة الإدارية التي تقول: جرّبوا عددا كبيرا من الأشخاص، واحتفظوا بمن يُظهِر الكفاءة؛ هي في الواقع تؤدي إلى أكبر مستوى من المشاكل والأزمات داخل المؤسسات
الموظف هو ركيزة العمل في أي مؤسسة، لذلك فإن اختياره يجب أن يكون اختيارا جراحيا بالمِشرط يضمن أن هذا الموظّف المختار يلبي متطلبات الوظيفة المطلوبة بالضبط، ولديه الحد الأدنى من المتطلبات الأخرى التي تضمن استمراره ونجاحه فيها. وبالتالي، توفير الكثير من الوقت والمجهود والأخطاء، بل وحتى تحمّل عبء استبعاده لاحقا.
بمعنى آخر، القاعدة الإدارية المعروفة لدى بعض المؤسسات التي تقول: جرّبوا عددا كبيرا من الأشخاص، واحتفظوا بمن يُظهِر الكفاءة؛ هي في الواقع تؤدي إلى أكبر مستوى من المشاكل والأزمات داخل المؤسسات، لأنها هي التي تجبـر الإدارة على اتخاذ قرارات حازمة “صعبة” لاحقا باستبعـادهم، قد يعتبرها هؤلاء الموظفون ظلما. بينما هي في الواقع قرارات إنقاذ “قاسية” من مأزق تسببت فيه طريقة خاطئة لاختيار الموظفين منذ البداية.
بقدر الإمكان، إذا لم تكن واثقا من كفاءة الشخص المتقدم للوظيفة بأعلى نسبة ممكنة، فمن الأفضل ألا توظّفه مباشرة، واستمر في البحث عن موظفين ذوي مهارات وإمكانيات أفضل يمكنهم شغل هذه الوظيفة لفترة أطول بمشكلات أقل وطموح وتأقلم أكبر على ثقافة مؤسستك التشغيلية. توظيف الأشخاص الخاطئين هو الخطوة الأولى لتوقّف نمو المؤسسة أولا، والخطوة الأولى لبدء إعداد تغييرات هيكلية ووظيفية “قاسية” قد تجلب لك الانتقادات لاحقا.
القاعدة الثـانيـة: عندما تتأكد أنك بحاجة إلى تعديل مسار الموظف.. تصرّف!
الموظفون الأكْفاء لا يحتاجون إلى إدارة، بل فقط يحتاجون إلى الإرشاد وإلى التعلّم وإلى من يوجّههم إلى الطريق
بمجرد أن تبدأ الشعور بأنك في حاجة إلى اتخاذ مواقف متشددة في إدارة موظف ما، فهذه إشارة إلى أنك ارتكبت خطأ عندما قمت بتوظيفه. وهذا الخطأ يتناسب طرديا مع الفترة التي تقرر التدخل فيها لإدارة الموظف، كلمـا كان قرار تدخلك سريعا بعد فترة يسيرة من توظيفه الرسمية -بعد فترة الإعداد والتدريب المبدئية- كانت هذه إشارة واضحة إلى أنك ارتكبت خطأ في تقييم مهاراته ومدى تناسبه لأداء الوظيفة.
كقـاعدة: الموظفون الأكْفاء لا يحتاجون إلى إدارة، بل فقط يحتاجون إلى الإرشاد وإلى التعلّم وإلى من يوجّههم إلى الطريق. لكنهم قطعا لا يحتاجون إلى من يديرهم بشكل كامل. لذلك، فبمجرد التأكد أن هناك موظفا غير كفء في الشركة، يجب عليك أن “تتصرّف”. والتصرّف المقصود هنا سلسلة طويلة من الإجراءات التي تهدف إلى تحسين مستواه ورفعه لكفاءة الموظفين الآخرين.
ستبدأ في التجربة وإعطائه مهام بديلة، وستمنحه فرصة أخرى وثالثة ورابعة، وستكلّفه بخوض برنامج تدريبي، وستوظف شخصا آخر يقوم بما كان يجب على الموظف نفسه القيام به، وستُنشئ نظاما بديلا يحاول تعويض التقصير الذي يأتي من ورائه. مراحل إدارية مختلفة تحاول من خلالها تعديل الأوضاع وتحسين مستوى الموظف ليرتقي إلى مستوى البقية، بهدوء وبحزم وبمراقبة عن كثب، والأهم: بدون اتخاذ مواقف متحيّزة تجاهه.
أما في حالة استمرّ الوضع كما هو عليه، فالقاعدة الطبيعية تقول إن ترك الأشخاص غير الأكْفاء موجودين في بيئة العمل هو في النهاية “ظلم” للأشخاص الأكْفاء، بل قد يؤدي إلى عواقب وخيمة مثل بدء تسرّب الكفاءات من الشركة نفسها والبحث عن شركات أخرى تُقدّر الكفاءات بشكل أكبر. لذلك، فإن الإدارة الحازمة تتطلب قرارا يبدو قاسيا، إلا أنه في محله الصحيح تماما وهو إنهاء خدمة هذا الموظف ضعيف المستوى بعد محاولة ترقيته بكافة الوسائل المتاحة، وإحلاله بموظف آخر ذي كفاءات أكبر. كل هذه الإجراءات تأتي في إطار إداري صريح مبني على أرقام وعلامات وقياسات أداء واضحة، وليس مبنيا على هوى شخصي من المدير بالإبقاء على فلان واستبعاد علّان لمجرد خلافات أو خصومات وظيفية أو مهنية.
القاعدة الثالثة: الموظف الصحيح في المكان الصحيح
في بدايات الستينيات، كانت شركة “فيليب موريس” الأميـركية العريقة المُصنّعة للسجائر قد وضعت سياستها الأساسية في السيطرة على السوق الأميركي تحديدا، وليس السوق العالمي، لدرجة أن مبيعات الشركة الخارجية كانت تُمثّل 1% فقط من عائداتها. إلا أنه في تلك الفتـرة كان لإدارة “جو كولمان” وجهة نظـر جديدة هي ضـرورة الانطلاق للأسواق العالمية، على الرغم من الأرقام الضئيلة التي تحققها الشركة في هذا المجال. ما الإستراتيجية التي بدأ بها كولمان لتطوير العمليات الدولية لشركته؟ لم تكن الإجابة تتعلق بالكيفيـات، ولكنها كانت تتعلّق بـ “مَن” الذي سيتولى هذه المسؤولية، وهو ما جعله يختار “جورج وايسمان” المدير التنفيذي الأهم في شركته على الإطلاق، ويقوم بتعيينه مسؤولا عن السوق الدولية.
للوهلة الأولى بدا هذا القرار صدمة حقيقية لجورج وايسمان. الرجل يدير 99% من إجمالي عائدات الشركة، حصل على أعلى مرتبة وظيفية على الإطلاق في الشركة، الكل يشهد بنجاحه وتميزه، ثم ينتقل -دون موافقته- لكي يتولى مسؤولية إدارة قسم السوق الدولية التي لا تُمثّل سوى 1% من أنشطة الشركة؟ كان هذا القرار يبدو ظالما بلا شك بالنسبة لوايسمان، إلا أنه لم يكن لديه سوى الموافقة على مضض، والبدء في عمله الجديد مديرا للسوق الدولية لشركة “فيليب موريس”.
بعد 20 عاما، بدا واضحا للجميع أن قرار نقل جورج وايسمان لهذه الإدارة كان قرارا عبقريا اتخذته الإدارة العليا للشركة. استطاع وايسمان أن يُنشئ أسواقا ممتازة لـ “فيليب موريس” في أوروبا والعالم، لدرجة تحوّل القسم الخارجي للشركة إلى أكبر أقسامها وأسرعها نموا، وتحولت سيجارة “مارلبورو” التي تنتجها الشركة إلى أكثر السجائر مبيعا في العالم قبل حتى أن تحقق هذه النسبة في الولايات المتحدة.
كان قرار إدارة “فيليب موريس” قاسيا بانتزاع أحد أهم مديريها الأكْفاء من وظيفته التي أثبت فيها نجاحا منقطع النظير، وتحويله إلى سوق راكد غير فعّال وغير مهم وقتئذ، لدرجة أنه هو نفسه قضى وقتا يتساءل فيه عن “الخطأ الذي ارتكبه” لتنقله الشركة إلى هذه الإدارة، ظنا منه أن هذا الانتقال يعتبر عقوبة وليس ترقية. ومع ذلك، أثبت القرار الحازم من إدارة الشركة أنه كان صحيحا، وأن فكـرة توطين الموظفين في مناصب بعينها وفقا للتحليل الدقيق لمهاراتهم هو قرار صحيح، حتى لو لم يتماشَ مع رغبة الموظف نفسه. (6، 7، 8)
أخيرا، ربما العامل الوحيد الذي يضمن توصيف إدارة ما بأنها إدارة حازمة وليست ظالمة في التعامل مع الموظفين هو مصداقية هذه الإدارة في التعامل مع مؤشرات الأداء وتحليل مستويات كل موظف في كل فريق، ومن ثم اتخاذ القرارات التي تطوّر المنظّمة أو على الأقل لا تعيدها إلى الخلف، مهما كانت هذه القرارات تعتبر قاسية للبعض، وربما ظالمة للبعض الآخر.