بالنسبة لمعظم الأهل الذين لديهم أطفال رضّع، فإن اختيار طريقة إطعامهم مقلقة بعض الشيء، أما بالنسبة لذوي 22 ألف طفل وُلدوا خلال حرب غزة، فالاختيار لم يعد متاحاً، إذ يواجه كثيرون معركة يومية لإبقاء أطفالهم على قيد الحياة.
من بين هؤلاء الأهالي، أمل، التي لم يتبق لديها سوى ما يكفي ليومين من حليب الأطفال عندما قررت القيام برحلة خطيرة في منتصف شهر يناير/كانون الثاني الماضي؛ إذ لم يستطع طفلها محمد، البالغ من العمر ثلاثة أشهر فقط، أن يحصل على الحليب.
وكتبت أمل في رسالة نصية “سأحفر الجبال لتوفير الحليب.. طفلي يحتاج إليه”.
كانت أمل تعيش في خيمة وسط الأحراش خارج خان يونس، ثم قررت البحث عن حليب لطفلها في الجنوب في مدينة رفح، التي عادة ما يستغرق الوصول إليها 20 دقيقة فقط بالسيارة، لكن في الوقت الحالي، القوات الإسرائيلية تملأ الطرقات.
“أنا في طريقي إلى رفح الآن … سأحاول العثور على بعض الحليب، إن شاء الله سأحصل على البعض منه اليوم”، قالت لي في تسجيل صوتي، يظُهر قلقها، لكنها مصممة على مواصلة البحث.
كان الأمر خطيراً، لكن لم يعد لديها أي خيار آخر، تركت طفلها محمد وشقيقه الأكبر نوح خلفها مع عائلتها، وبعد بضع ساعات سُمع صوت آخر.
“تعرضت سيارتنا لهجوم من الدبابات الإسرائيلية في طريقنا إلى رفح، وأنا الآن عالقة في رفح”، تقول أمل خائفة، وتضيف: “لا أعرف إذا ما كنت سأرى أطفالي مرة أخرى”.
ولاحقاً، شرح صديق ما حدث في السيارة قائلاً: صادفنا ثلاث دبابات أطلقت إحداها النار بالقرب من السيارة، تراجع السائق بالسيارة وفر هارباً في حالة من الذعر.
بقيت أمل لساعات منقطعة عن شبكة الإنترنت، وفي وقت متأخر من تلك الليلة وصلت رسالة، “لقد عدت إلى خان يونس لكن بدون حليب أطفال”.
في صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كانت أمل تحتضن ابنها نوح البالغ من العمر 18 شهراً في الفراش عندما أيقظتهما أصوات التفجيرات التي هزت جدران منزلهم.
“حملتُ نوح وركضتُ من غرفة إلى أخرى، لم أكن أعرف إلى أين أذهب لأن التفجيرات كانت تحيط بنا من كل مكان”، تقول أمل.
وشنت حماس هجوماً على إسرائيل وأطلقت آلاف الصواريخ عبر الحدود، بينما ردت المقاتلات الإسرائيلية على القطاع بهجمات انتقامية، لكن في خان يونس جنوبي غزة، لم يكن لدى أمل أي فكرة عما يجري.
كانت أمل في ذلك الحين قلقة ومذعورة، وكانت لا تزال في حملها بابنها محمد، في الشهر الثامن، وبدأت تنزف بغزارة.
كان عليها أن تذهب إلى المستشفى على الفور لكنها كانت بمفردها لأن زوجها يعمل في الضفة الغربية.
قالت أمل: “انتظرت سيارة التاكسي لمدة ثلاث ساعات على الأقل، وكانت الشوارع مليئة بالناس، كانوا جميعاً خائفين، ولم يعرفوا ماذا يفعلون أو إلى أين يذهبون، كنا نسمع القصف في كل مكان”، تضيف أمل.
عندما وصلت أمل إلى المستشفى، تم تحويلها لإجراء عملية ولادة قيصرية على الفور، وُلد محمد في الساعة 11 صباحا في عالم تغير إلى الأبد.
ذهبت أمل إلى منزل والديها للتعافي، وفي الطريق، اشترت حفاضات وحليب للأطفال، بالإضافة إلى دواء لنوح المصاب بالصرع. وتضيف أمل: “اعتقدتُ أن الحرب لن تستمر أكثر من شهر واحد”.
أرضعت أمل ابنها محمد رضاعة طبيعية لمدة شهر، لكنها وجدت أنها لا تنتج ما يكفي من الحليب.
وتضيف أمل: “كنت خائفة ومتوترة طوال الوقت، لم أكن أنتبه لضرورة تناول الطعام الجيد، لذلك لم يكن لدي حليب له… لكنني حاولت”.
كما هو الحال في المملكة المتحدة، نحو نصف النساء فقط في غزة يرضعن طبيعياً لأكثر من ستة أسابيع، وفي العديد من حالات الطوارئ التي تستجيب لها الأمم المتحدة، يكون معدل الرضاعة الطبيعية أعلى بكثير.
وقالت كبيرة مستشاري اليونيسف بشأن تغذية الأطفال في حالات الطوارئ، أنو ناياران: ” منذ أن بدأت الحرب، علمنا أن الرضاعة ستشكل تحدياً للأمهات”.
وأضافت: ” في وسط الصراعات، إذا لم تبدأ الأم بإرضاع الطفل فوراً بشكل طبيعي، فإنها لن تتمكن من فعل ذلك لاحقاً، ويُصبح الاعتماد الكلي على حليب الأطفال الاصطناعي”.
ولأن نظام المياه في قطاع غزة يعمل بصعوبة بالغة في ظل الحرب، تكافح الأمهات الجدد لإنتاج الحليب لأنهن يعانين من الجفاف.
وتضيف ناياران، كبيرة مستشاري اليونيسف: “يحصل الناس على أقل من لترين من الماء يومياً وهذا بالكاد يكفي للشرب، ناهيك عن الغسيل”.
ولا يدخل غزة ما يكفي من حليب الأطفال، فقبل الحرب، قيدت إسرائيل عدد الشاحنات التجارية التي تدخل القطاع، والآن أوقفتها تماما، مما يعني أنه لم يتبق سوى القليل في السوق، وعلى الرغم من استجابة الأمم المتحدة بإرسال الحليب، إلا أن شاحنات الإغاثة مقيدة أيضا.
وبسبب نقص المياه النظيفة، ترسل اليونيسيف حليب الأطفال مخلوطاً ومجهزاً مسبقاً إلى غزة، ولكن يصعب نقله بكميات كبيرة.
بعد ثلاثة أيام من تعافيها، اضطرت أمل إلى إخلاء منزل والدتها، وذهب جميع أفراد العائلة إلى مكان آخر قريب، واستمرت معاناة العثور على حليب للأطفال، لكنها استمرت في البحث من متجر إلى آخر، حتى حصلت عليه أخيراً.
وبعد ثلاثة أسابيع طُلب منهم الإخلاء مرة أخرى، وفي الثاني من ديسمبر/كانون الأول، تم إبلاغهم مرة أخرى أن الحي الذي كانوا فيه سيتعرض للهجوم.
وغادروا في الليل، قبل ساعتين فقط من قصف المكان، وتضيف أمل: “لم أستطع أخذ الحليب والحفاضات معي لأن المبنى بأكمله سُوي بالأرض”.
هرب بعض أفراد عائلة أمل إلى منطقة في الأحراش خارج خان يونس، لكن أمل شعرت أن الأمر خطير، فأخذت أطفالها جنوبا إلى رفح.
عندما اتصلتُ بها لأول مرة كانت قد عادت لتوها إلى خان يونس، وكنتُ في حيرة من أمري، حيث كانت إسرائيل توسع هجومها البري في المدينة وكان الناس يفرون بالآلاف. تقول أمل: “كان قراراً مروعا والمكان خطير هنا”.
وقالت أمل إنها لم تستطع العثورعلى الأشياء التي تحتاجها في رفح، فابنها محمد لديه حساسية من منتجات الحليب؛ فنوع الحليب العادي يجعله مريضا، “وجدتُ نوعاً واحدًا من التركيبة التي لا تسبب له الحساسية، لكنه كان مكلفا”.
على الأقل في خان يونس، يمكن لعائلتها مساعدتها في البحث – تحت الأنقاض.
وكتبت أمل في رسالة نصية: “أرسلت إخوتي للعثور على الحليب والحفاضات في المباني المدمرة”… قد أفقد أحدهم، لكنه الخيار الوحيد المتاح لنا”.
وبعد عدة أيام عاد إخوتها دون أن يعثروا على شيء، كان الأمر خطيراً، والقتال في كل مكان.
ثم قامت أمل برحلة العودة الخطيرة والكارثية تقريباً إلى رفح.
ومع نهاية شهر يناير/كانون الثاني، انقطعت الاتصالات، كان القتال في خان يونس يتصاعد كل يوم، مرت ثلاثة أيام قبل أن أستطيع التواصل معها.
وقالت: “أولادي بخير لكننا جميعاً خائفون لأن القصف لم يتوقف خلال اليومين الماضيين، واستمر ليلاً ونهاراً”.
“الأصوات الناتجة عن الانفجارات صعبة بشكل خاص على نوح، لأنها تجعل النوبات التشنجية التي يعاني منها أسوأ…، وقد نفد دواء الصرع لديه”.
لدى أمل بعض الطعام والقليل من الماء، تغليه على النار لمحاولة تعقيمه، قائلة: “لا يزال الماء غير نظيف ولكني أبذل قصارى جهدي”.
وُلد نحو 23 ألف طفل منذ بداية الحرب، وفقا لتقديرات منظمة الصحة العالمية، بمعدل 190 طفلاً كل يوم، بينما يواجه سكان غزة مجاعة حقيقية وبشكل خاص بالنسبة للأطفال الصغار.
وقالت ناياران من اليونيسف: “يمكن أن يمرض الأطفال بسرعة كبيرة… ولديهم مخزون أقل من الدهون والعضلات، وقد يعانون بسرعة من سوء التغذية الحاد، وهناك عواقب طويلة المدى، بما في ذلك الضعف الجسدي والذهني”.
تخلت أمل عن إيجاد حليب لطفلها في الوقت الحالي، لكن محمد لن يجوع بعد اليوم، فقد وجدت أمل أُما في نفس المنطقة ترضعه جنبا إلى جنب مع طفلها، تدفع لها أمل بعض ملابس الأطفال وقليلاً من المال.
وفي خيام مصنوعة من الألواح الخشبية وأغطية مطاطية، باتوا يقيمون فيها على الأرض الرملية، ويأكلون الأطعمة المعلبة والخبز من الدقيق المتبرع به، إذا تمكنوا من الحصول عليه، ويخبزونه مع العلف.
وفي أحد الليالي، أرسلت لي أمل آخر صورة التقطتها لحياتها قبل الحرب، التُقطت ليلة السادس من أكتوبر/تشرين الأول؛ وفيها نوح مستلقٍ على سجادة ناعمة، وتحته وسادة كبيرة، وهو يشاهد الرسوم المتحركة على التلفاز، ويشرب الحليب من زجاجته، ويركل ساقيه في الهواء تحت أضواء خافتة منعكسة على جدار غرفة المعيشة.
لقد نام مع والدته في تلك الليلة في عالم بعيد عن الغبار والركام، والطائرات المسيرة التي تستمر بالتحليق فوق رؤوسهم، والتي باتت تملأ حياتهم في الوقت الحالي.
وقالت أمل: “كما ترون، ليس لدي الكثير من الخيارات المتاحة، لذلك أحاول أن أفعل ما هو ممكن، فأنا بحاجة إلى إنقاذ أطفالي من هذه الحرب المروعة”.