إذا نظرنا إلى اللوحات الأكثر انتشارا، سواء على أرض الواقع أو الإنترنت، فأول ما نفكر فيه هو لوحة “ليلة مرصعة بالنجوم” لفينسينت فان جوخ، ذلك المشهد النابض بالحياة للسماء الليلية التي تتراقص عليها النجوم اللامعة بشكل حيوي، يجعلنا نتصور أنها تتحرك، نرى ألوانها ومقاطع منها على الجوارب والأحذية والسترات، مرسومة على الأيدي والجدران.
إذا كان الفن التشكيلي فنا غير شعبي، فإن عملا معينا دائما ما يجد طريقه للجمهور، لكن صعود ليلة مرصعة بالنجوم لتلك المكانة ليس بشيء قديم، فإذا سألت أي شخص قبل عشر سنوات عن أشهر لوحة من المرجح أن يجيب بأنها “الموناليزا” لليوناردو دافينشي، وربما سيحيك حولها الأساطير مثل أنها تنظر إليك أينما ذهبت، لكن بشكل ما حلّ فان جوخ محل دافينشي، فكيف وصلت لوحته لهذا القدر من الشعبية؟
سردية الفنان المعذب
يوجد أكثر من نقطة لافتة في شهرة “ليلة مرصعة بالنجوم”، أولها أن جماهيريتها معتمدة بالأساس على جماهيرية صانعها، الذي اكتسب احتراما وشهرة ومتابعين بعد مماته، اعترف النقاد ومحبو الفن بعبقرية فان جوخ بعدما لفظه عصره، لكنه اكتسب شهرة فوق شهرته في عصر الإنترنت.
أصبح جوخ مثالا للفنان المثابر الذي يحارب شياطينه وأحزانه، وبنيت حوله أسطورة الفنان المعذب، وهي فكرة تجني شهرة أكثر كل يوم بين متابعي الفن الأصغر سنا، يوجد ذلك الهوس بالفنان الذي يموت صغيرا، والذي يزهق حياته بيديه لأن لا أحد يفهمه أو يستوعب فنه ومشاعره المرهفة، ويتم تأليه نجوم الروك المنتحرين أو الراحلين عن عالمنا بجرعة زائدة من المخدرات، واعتبارهم ملائكة ذهبوا قبل أوانهم، وبشكل ما أصبح فان جوخ نجم روك في عالم الفن التشكيلي.
فكرة الفنان المعذب أصبحت لصيقة بكل فنان عبقري صنع قطعة فنية أثرت في عدد كبير من الناس، أنتج بيكاسو مرحلة فنية كاملة بعدما فقد صديقه المقرب -بالانتحار- أسماها الفترة الزرقاء نظرا لحزنه الشديد، كذلك فان جوخ نفذ لوحته الأشهر في حالة من الاضطراب الذهني الشديد، بعدما مر بانهيار تسبب في قطعه جزءا من أذنه.
لطالما عانى من مشكلات عقلية ونفسية جعلته يصاب بنوبات متكررة تخرجه عن طوره وتؤذيه، لكنها أيضا كانت السبب في إنتاجه أعظم أعماله، لأنه يرى الألوان بشكل أكثر حيوية من الشخص العادي ويشعر بما حوله بشكل أكثر حساسية، فساعده الفن في احتواء مشاعره المضطربة المتلاطمة، تجذب تلك السردية الفنانين ومتابعي الفن من الشباب، فتجعل لحزنهم سياقا أوسع ينطوي على إنتاج الفن من قلب المعاناة وفكرة رومانسية عن ارتباط الألم النفسي بالفن العظيم، فيمكن اعتبار ذلك من أسباب شهرة “ليلة مرصعة بالنجوم”.
أساطير حول اللوحات الشهيرة
لطالما تساءل الناس عن سبب شهرة الموناليزا الجارفة، هل هو غموض ابتسامتها؟ هل تنظر لك فعلا حين تنظر إليها، أو هي مجرد لوحة شخصية لفتاة عادية على خلفية من المناظر الطبيعية؟ انكشف اللغز حين علم أنها تمت سرقتها واسترجاعها عدة مرات مما جعلها من أشهر ما رسم ليوناردو دافينشي، بسبب رحلة استرجاعها وإسكانها متحف اللوفر الشهير.
أما ليلة فان جوخ المرصعة بالنجوم فلا توجد بها مساحة للألغاز، لأن فينسينت نفسه يكتب عن أعماله في خطاباته لأخيه، يشرح حالته وقت تنفيذها ويعبر عن مشاعره تجاهها، فتنتقل إلينا تلك المشاعر ونبدأ في ترديدها باعتبارها اقتباسات مثل “منظر النجوم يجعلني أحلم”.
تملك اللوحة أساطيرها الخاصة لكنها ليست تكهنات مثل التي تمارس على الموناليزا، فنحن نعلم أن فان جوخ رسمها من نافذته في المصحة العقلية التي حجز نفسه فيها بعد إحدى النوبات العنيفة، فهي تمثل ذلك الهروب من الظلام إلى النور، لأنه -وبشكل واع- قرر ألا يرسم القضبان الحديدية التي تغطي النوافذ كيلا يهرب النزلاء، فهي لوحة عن التوق للحرية والتعبير الحر عن الذات حتى وإذا كان الجسد محتجزا.
ألغاز فيزيائية ورياضية
احتار الفيزيائيون في تفسير ظاهرة اضطراب الماء والهواء، أي كيف يمكننا أن نرى دوائر الماء تتوسع وتخلق حلقات مرئية أو كيف نرى الهواء يلتف في دوامات متحركة؟ استعجب الفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ من الظاهرة حتى أنه قال مازحا إنه عندما يقابل الرب سيسأله عن موضوعين، هما النسبية واضطراب الماء، وهو متأكد أنه سيعلم فقط الإجابة عن النسبية.
لكن في ظل حيرة العلماء في تفسير الظاهرة بشكل حسابي، أتى دور الفن في وصفها بصريا، عندما رسم فان جوخ لوحته، صوّر النجوم والسحب مثل دوامات متحركة مضيئة، ولأن جوخ أحد أعلام مدرسة ما بعد الانطباعية المهتمة بتمثيل الضوء ليس في حالته الواقعية بل في إحساسه، فيعبر عن ذلك الاضطراب الذي حيّر هايزنبرغ عن طريق مخاطبة جوخ جزءا من المخ البشري بشكل لا واع، باستخدامه للألوان المشعة والتباين الشديد، فإذا تم وضع لونين متجاورين بالمستوى نفسه من الإشعاع، فسيتلقاها العقل بشكل يجعلها ترتجف وتتحرك، مثل لمعان الشمس على المياه أو حلقات المياه المهتزة.
بعد أعوام وجد علماء الرياضيات دلائل على تفسير حركة الضوء والرياح داخل لوحة فان جوخ، لكن بعيدا عن الاكتشافات العلمية المعقدة، فإن قابليتنا لرؤية اللون والضوء في حالة حركة وتلألؤ يجذبنا تلقائيا لذلك العمل الفني دون غيره، فإذا كانت شهرة الموناليزا مبنية على أسطورة لا أساس لها، فإن لوحة “ليلة مرصعة بالنجوم” تتحرك فعلا وتأسر قلوبنا وعقولنا.