بعيدا عن نقاش القبل، قريبا من نقاش السينما.. هنا حديث عن ما شاهدته العين في الشاشة، وليس خارجها.
أنسل من القاعة الكبرى التي تحتضن أفلام المسابقة الرسمية، لأخلق مساحة زمنية أخصصها لمشاهدة الفيلم المغربي “ٱدم” للمغربية مريم التوزاني؛ وهو إنتاج مغربي وفرنسي وبلجيكي. هو أول أفلامها الطويلة، عرض في فئة “نظرة ما” (الفئة الثانية في مهرجان كان).
يبدأ الشريط بلقطات مقربة ترصد ملامح “سامية” (نسرين الراضي)، المرأة الحامل خارج إطار الزواج والتي توصد في وجهها الأبواب، وينتهي بعد ساعة وثمان وثلاثين دقيقة بلقطة مقربة لنفس الشخصية التي تفتح الباب لتغلقها مغادرة رفقة مولودها “ٱدم” نحو المجهول. المجهول يرافقها من أول الشريط، ويبقى مستأسدا إلى أن ينتهي العمل الذي يحكي معاناة أم عازب نتعرف عليها وهي في فترة حمل متقدم. مجتمع يرفضها، وحالة تيه تعيشها بين الأزقة القديمة للدار البيضاء خلال بحثها عن بيت تشتغل فيه، ليأوي جسدها وجسدا صغيرا لرضيعها الذي قد يأتي بين الفينة والأخرى.
تستمر اللقطات المقربة التي لجأت إليها المخرجة لتصوير قسمات “سامية”. ينتهي بها المطاف عند “عبلة” (لبنى أزابال) فقدت رفيقها في الحياة، وتعيش رفقة ابنتها. علاقة متشنجة، ليحصل التقارب تدريجيا، رغم نز الأعصاب. يستوعب المشاهد بأن المخرجة تريد أن تمرر فكرة مفادها بأن المرأة التي تعاني هي سند امرأة أخرى تعاني، أما الرجل فيغيب ولا يوجه إليه اللوم في أي لحظة من لحظات شريط صنعته المرأة من أجل المرأة.
في الفيلم، كثير من نوستالجيا، وكثير من تفاصيل يبدو أن مريم التوزاني عايشت مثيلا لها من ذي قبل. تعطف عبلة على سامية، وتساند “سامية” مضيفتها، وتساعدها على التحرر من عقد ماضيها، وفي الخلفية أغنية “بتونس بيك” لوردة التي تصير مع مرور الدقائق مؤشرا على حصول تصالح مع الألم وعبور نحو الأمل. الأمل يعود ليختفي في ٱخر دقائق الشريط، حين يرى “ٱدم” النور في ظروف عسيرة. أم عازبة ترفضه وتتأهب للتخلي عنه، وصديقة تشجعها على الاحتفاظ به.
قوة الفيلم في نهايته، حين تعانق “سامية” ابنها، وتفكر في تصفيته، ثم تقترب منها الكاميرا أكثر حين تعيد احتضانه في إشارة إلى اقتناعها بحقه في الحياة. تغادر رفقة ابنها فيما بعد نحو المجهول، ويغادر المشاهدون قاعة “Debussy” الشهيرة بعد أن لفظ الفيلم أنفاسه، ولفظت المقاعد أجساد مشاهدين حركتهم الدقائق الأخيرة من “ٱدم”.
موضوع الأم العازبة سبق أن تم تناوله مرارا في سينمانا المغاربية والعربية. قد يقول قائل بأن مهرجان “كان” يختار عن قصد الأفلام التي تتناول مثل هذه المواضيع، وهي ملاحظة لن يمارس اثنان بخصوص صحتها حين يتوفر للفيلم الحد الأدنى من مقومات جمالية. الجديد، هنا، هو أن مريم التوزاني صنعت شريطا عن المرأة اعتمادا على كفاءة المرأة لعرض معاناة المرأة.
بغض النظر عن الجدل الذي أعقب التقاط صور خارج صالة العرض، وهو أمر لا يهمني في هذا المقام، وجب الإقرار بأن الكاستينغ الأنثوي كان موفقا، والحديث هنا عن نسرين الراضي ولبنى أزابال والطفلة دعاء بلخودة وحسنة طمطاوي بدور ثانوي.
أداء فيه إقناع في أغلب فترات الشريط، مع تسجيل بعض من ملاحظات؛ منها مثلا دارجة لبنى أزابال التي كان بالإمكان الاشتغال عليها أكثر قبل الشروع في التصوير. في ٱخر دقائق الفيلم، أبانت الممثلة نسرين الراضي على قدرة كبيرة في خلق إحساس رهيب، وتقديم أداء يتغذى من الداخل. دور “سامية” يستحق الإشادة، ويظهر بأن الشخصية تم الاشتغال على بنائها طويلا وبعناية.
بعيدا عن ما رافق عرض الفيلم، بالإمكان القول بأن الراضي التي حملت الفيلم لعبت أفضل أدوارها في السينما إلى حد الٱن؛ وهو أمر سيتأكد منه الخلق بعد عرض الفيلم في القاعات لاحقا.
في محاولتها الأولى في الفيلم الطويل، نأت المخرجة مريم التوزاني عن توزيع الاتهامات كما يحدث عادة في أفلام بمواضيع مماثلة، وأرادت أن تمنح الأم العازبة فرصة الإفضاء بما يساورها من مخاوف تخص مستقبل ابنها الذي قد يعيش رفضا من ذويه وبني جلدته.
ٱخر الكلام، في هذا الركن لم ولن نتحدث عن قبلة أو صفعة؛ لأن ما يهمني شخصيا هو ما أشاهده في قاعة العرض. هو ركن سينمائي، وسيبقى كذلك على الدوام مع احترامي لاختيارات الٱخرين. “ٱدم” طفل ولد خارج مؤسسة الزواج، وجعل مريم التوزاني داخل ثاني أهم المسابقات هنا في مهرجان “كان”.
هنيئا لها ولفريق عملها، وبالتوفيق لـ”ٱدم” في مشاركاته المقبلة، وبالتوفيق أيضا لكل السينمائيين المغاربة في محاولاتهم المضنية لفرض الذات في مواعيد عالمية توضع أمام الراغبين في المشاركة فيها عراقيل كثيرة.
لكم قبلاتي من “كان”، ولا أحتاج طبعا إلى أذكر بأنها كانت وستبقى قبلات أخوية.